نوافذ: الكائن الهش والصيف!
في جو كابوسيّ، تتجاوز فيه درجات الحرارة الخمسين درجة، وفي نسيج الغرف الأسمنتية التي طالت المدينة والريف على حد سواء، تحت تأثير انزياح الغطاء النباتي الذي كان من الممكن أن يُحدث تغييرا طفيفا، نجد أنّ أكثر المواضيع التي تُشغل بال الآباء والأمهات هو خيارات الأبناء الضئيلة ما إن تُغِلقُ المدارسُ أبوابها، فهم يتحولون -شئت أم أبيت- إلى كائنات انعزالية، تتبدى مُتعتهم الأثيرة في الأجهزة اللوحية، حيث تتكثف عوالمهم وانتصاراتهم المزعومة. وليس عليك أن تتفاجأ عندما يسألك ابنك عن البديل الذي يُمكنك أن توفره له قبل أن تمارس عليه سُلطة المنع والغضب!
يُصاب الآباء والأمهات بحيرة عارمة وسؤال يتكرر كلَّ صيف: "أين يمكن أن يقضي أبنائي ثلاثة أشهر مُلتهبة؟" دون أن نشهد تغيرا ملموسا يُصيب حياة هذه الفئة العمرية الحساسة، والتي تعني بطريقة أو بأخرى مستقبل البلد!
لنتفق أولا أنّك لو كنت من ذوي الدخل الجيد، ستجد بعض الفعاليات التي تستهدفك والتي تُغالي في مبالغها الباهظة، فجيبك العامر قادر على السداد عن طيب خاطر.
ولذا أجدني أكثر ميلا للتحدث عن الكائن الهش الذي ينتمي للطبقة المتوسطة فما دون ذلك، الكائن الهش في ظل رفع الدعم عن الماء والكهرباء، وفي ظل الضرائب المتلاحقة، والراتب الذي لم يُصبه تغيرٌ محسوسٌ وسط الأزمات الاقتصادية المتوالية التي تعبر العالم.
من الأكيد أنّ هذا الكائن الهش سيبدو السفر بالنسبة إليه حُلما عسير المنال دون دَيْنٍ يكسرُ ظهره، ولذا فإنّه لا محالة سيغدو أمام احتمالين أحلاهما مُر. الخيار الأول: أن يلزمَ بيته ويكتفي بمكيفٍ يُبردُ الهواء المُلتهب ويرفع فاتورته الشهرية. والخيار الثاني: أن يرضى بإدخال أبنائه ورشا متواضعة جدا، كتلك التي تُطاردنا إعلاناتها ليل نهار، تلك الورش التي أقلّ ما يمكن أن يُقال عنها، أنّها تستهينُ بالطفل وبقدراته، وتهدف للكسب السريع دون أي مرتجع حقيقي للأبناء!
مؤخرا، رأينا من هبّ ودبّ يُقيم ورشا، ورأينا إقبالا كبيرا من الأطفال المتعطشين لكسر روتينهم اليوميّ بحدثٍ جديد، لكن كلّ ما يفعله تجار الورش الميتة اليوم، هو استدراج هزيل في ظل غياب المشروع الرصين والمتكامل!
وأكاد أجزم بأنّنا لن نستطيع أن نصدّ جشعا من هذا النوع، فهو يتبدى للجمع الغفير رخيصا ونافعا، إلا أنّه مُدمرٌ في حقيقته ومُستخفٌ بعقول الأطفال.. أقول لا يمكن القضاء على هؤلاء المُدعين المتكسبين إلا باستثمار حقيقي تشترك فيه الدولة بكل ثقلها جوار أصحاب رؤوس المال، فلا يزال الاستثمار في هذا القطاع ضعيفا جدا، أمام الجيل الفتي الذي تزخر به البلد. ولا أدري لماذا يغض أصحاب رؤوس المال الطرف عن قطاعٍ حيوي كهذا!
لكن وإن وُجد، فقلّما يُعمل عليه بالصورة التي تُساير تطلعات الطفل الجديد، الذي لم يعد بالإمكان أن تضحك عليه بقصص التلوين الباهت، والطرق المكررة في جعله مُتلقٍ بائس، كما يفعل التعليم معه للأسف الشديد. طفل اليوم يُذهلك بسرعة تلقيه وخبرته الإلكترونية، ويتطلع لخطاب مختلف.
ثمة جهود لا نستطيع إنكارها بين مؤسسات الطفل المختلفة، ولكنها جهود مُشرذمة هنا وهناك، والإعلان عنها متواضع إعلاميا. تشرذم الجهود يُصيب العاصمة مسقط، فما بالك بحال المحافظات الأبعد.. لكننا نتفاءل الآن، ونحن نُراهن على الصلاحيات الكثيرة التي أعطيت للمحافظات، والتي من المؤمل أن تُمكنها من رسم خططها باستقلالية تنافسية، سنتفاءل طبعا.. فيما لو كان الطفل والشاب ضمن أولوياتها!
نعول الآن على "مركز الشباب" التابع لوزارة الثقافة والرياضة والشباب، والذي يهدف لدعم الفكر الإبداعي وتنمية المواهب، وأيضا تحقيق التكامل بين المؤسسات الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني، لسد ثغرة كبيرة في حياة أبنائنا وشبابنا، ولإعادة تكوينهم رياضيا وفنيا وثقافيا وروحيا، واكتشاف ميولهم وأفكارهم وتعزيز اختلافهم، لا صناعة نسخ مكررة منهم.
إنّ الكائن الهش الذي تشغل باله: "جونية الطحين والعيش.. بكم!"، ويشغل باله كيف سيمضي الشهر ريثما يأتي الراتب المقبل، لا يمكننا تركه وحيدا، تتكالب عليه الظروف، فيقف عاجزا عن رفع شبح الوقت الثقيل عن أطفاله وأولاده المراهقين. ينبغي أن تستثمر الدولة في هذه الفئات العمرية الحساسة، قبل أن تتبدد طاقاتهم فيما لا يُحمد عقباه مستقبلا.