نوافذ : القارئ وتشييدُ المعنى
جرت العادة أن نسأل: "كيف نقرأ.. ماذا نقرأ"؟ ولكن الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا يطرحُ سؤالا مغايرا حول: من هو القارئ الذي يُعيد تشييد المعنى؟، وذلك في كتابه "القارئ الأخير"، للمترجم أحمد عبد اللطيف، حيث يُجمل لنا أشكالا لا نهائية من القُراء، فهنالك من يقرأ النص، وهنالك من يُشوهه، هنالك المُدمن الشرِه، وهنالك الأرِق، هنالك المتطرف والموسوس، وهنالك التائه في العلامات أو من يحمي نفسه بالقراءة!
ولعلّ أحدنا يسأل: في هذا العالم المُعبأ بالكتب، ماذا يمكن أن نُضيف؟ لقد كُتب كل شيء؟ يقول بورخيس: "اليقين بأنّ كل شيء قد كُتب يُلغينا ويحولنا إلى أشباح"، ولذا يغدو الرهان على إعادة القراءة.
تُظهرُ بعض روايات أبطالها وهم يقرأون، ففي "أبله" "ديستوفسكي" يدخل الأمير "ميشكين" غرفة الصبية "نتاشا" الشغوفة والمتمردة، فيجد فوق طاولتها كتاب "مدام بوفاري"، فيحدثُ توترٌ ما بين الوهم والواقع. "أنا كارنينا" كانت أيضا تقرأ في قطار، ويُخمن "بيجليا" قراءتها لرواية جين أوستن. "تترك القراءة علامة فيمن يقرأ، فيشعر بأنّ حياته لا معنى لها عندما يُقارنها بحياة الأبطال الروائيين، فالقارئ يريدُ أن يتمتع بالكثافة نفسها"، باعتبار القراءة مرآة لما يجب أن تكون عليه الحياة.
ويسأل "بيجليا": هل يمكن للمرء أن يربط فتاة بالقراءة؟ "كافكا" فعل ذلك مع"فيليس باور". كانت فتاة مجهولة، لكن كافكا -وعبر كتابة الرسائل إليها- أعاد اختراعها من جديد. خلق كافكا الرابط الغامض بينهما ثم خلق حوله المعنى، ورغم أنّهما التقيا مرة واحدة وظن في البداية أنّها خادمة البيت، إلا إنّه قدّم لها كل ذلك الاهتمام المتطرف! ولا يُخفي بيجليا إحساسه حول إمكانية أن يكون تفكير كافكا بها، مرتبطٌ بنشاطه ككاتب! فمراسلاته لها تؤكد أهمية عزلته، لكنه من جهة أخرى كان بحاجة لأن يصنع صورة عن القارئة الساهرة على مخطوطاته، القارئة المفتونة به. وعندما اكتشف أنّها تعمل في نسخ المخطوطات على الآلة الطابعة، تضاعف شغفه بالقارئة التي يمكن أن تعيش لنسخ نصوصه!
وبين المرأة التي ترفض أن تقرأ والتي لا تريد إلا أن تقرأ! نقرأ قصة فيرا نابكوف، التي تنسخ النص عشرات المرات للوصول إلى النص المثالي لزوجها، وتبرز هنا "صورة المرأة المُكرسة لحياة المبدع"، تلك التي تكتب لتذوب فيه، على عكس "نورا جويس" التي كانت ترفض أن تقرأ أي صفحة من أعمال زوجها وأشهرها رواية "عوليس"، رغم أنّ الرواية كانت تدور حول يوم 16 حزيران 1904، وهو اليوم الذي يُخلد ذكرى تعارفهما!
"صوفيا" زوجة "تولستوي" كانت الأكثر تطرفا، لأنّها تكتب يومياتها جوار عملية النسخ لزوجها، وتصف علاقتها بالنسخ، وشعورها بالملل من عملية نسخ النص عشرات المرات للوصول إلى نص مثالي، تمرر ذلك التمرد الذي قد يتقاطع مع تمرد "بارتلبي" بطل رواية "النساخ" لـ"ملفل"، حيث يتبدى الناسخ كبطل أدبي، يُقدم عالما مُغلقا مصنوعا من النسخ وإعادة القراءة، ويرى بيجليا أنّ عمل الناسخ لا يخلو من عبودية!
ويشير بيجليا لتوتر آخر ينهضُ بين القراءة والسياسة، فيظهرُ "أنطونيو غرامشي" المناضل الإيطالي يقرأ في السجن مُقيد الحركة، بينما كان "جيفارا" يقرأ برفقة الحركة، جيفارا الرحالة والكاتب والطبيب المغامر، تعلّم القراءة على يد أمّه، فقد كان مصابا بالسل، فتحول لقارئ شره يحبسُ نفسه في الحمام ليقرأ، وفي تجربته كمحارب، كان سيره مُتقطعا بسبب السل والقراءة معا.
يكتبُ أحدهم عنه: "بينما كنا جميعا موتى من شدة التعب، نغمضُ أعيننا محاولة النوم كان جيفارا يفتحُ كتابا". كان لديه حافظة جلدية يربطها على خصره، فيها أوراق يومياته وكتبه. الجميع كان يتخلى عن كل ما يُعيقُ السير، ولكنه كان يحتفظ بكتبه الثقيلة، "ذلك الثقل الذي يُناقضُ خفة الهروب"، وفي الليلة السابقة لإعدامه، تُضيء المفارقة الدرامية، حيث كان جيفارا يُصلحُ عبارة كُتبت بالخطأ على سبورة المدرسة، عبارة: "أنا أعرف القراءة".
هكذا يُحيط بيجليا القراء بهالة من الانتباه واللذة، لكننا نكتشف أنّه كان يخدعنا طوال الوقت، حيث لا يوجد قارئ أخير، ضمن هذه التجربة "المؤرقة والفريدة والمختلفة دائما"!