نوافذ : الحي من الميت
shialoom@gmail.com
في هذه المناقشة لا أذهب إلى حيث العلاقة بين الموت والحياة في حالتها البيولوجية، فهذا أمر اختص الله به بعزته وجلاله، فالعلاقة بين الموت والحياة -كما هو معروف- علاقة وجودية حكمها مطلق بيد الله، وإنما تذهب المناقشة هنا إلى مجموعة من الممارسات التي تكون في مقدور البشر بحدود إمكانياتهم المحدودة أصلا إلى النفاذ من خلالها للخروج من مأزق ما يشبه الموت، إلى مخرج ما يشبه الحياة، والحياة تضج بهذه الممارسات التي يأمل من خلالها أن تتيح لهم متسعًا أكبر للحياة، وتعزيزًا أكبر لمشروعها الممتد، وليبقى الأمل متواصلًا في قدرة الإنسان على إيجاد الكثير من المخارج لإشكاليات حياته اليومية.
فموت العلاقات بين الناس؛ وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، من الإشكاليات اليومية التي نواجهها، وإعادتها إلى مساراتها الطبيعية ليس يسيرا، وتحتاج إلى كثير من الجهد، والمشقة، حتى ولو أدى ذلك إلى الكذب «المباح» على الطرفين من أن الآخر يود ملاقاة أخيه والصفح عنه، ويقينا متى تم الصلح بين الطرفين فإن هناك حياة جديدة سوف تنشأ، وهناك حبال من الود سوف تمتد، وهناك بناءات من اللحم الاجتماعية سوف تتعزز، وهناك من الآمال المشرقة سوف تراكم المخزون الإنساني.
ومتى تم إغناء أسرة فقيرة، أو فرد فقير، وإغلاق قبر الفقر من حوله، فإن هناك حيوات من الاستمتاع والرضا سوف تطفو على سطح العلاقات الاجتماعية، وعلى مسارات هذه الحياة بين الأفراد، وهناك رفع مستوى الأنفس من ذل السؤال، والجلوس على أرصفة المهانة والاحتقار، وهناك رفع غير عادي لهذا الإنسان؛ الذي ما ولد إلا وهو حر، لا تستعبده المادة، ولا تمرغ وجهه في التراب الحاجة، مع اليقين أن الفقر والغنى هي أقدار كتبها الله على عباده، ولكنه في المقابل حث البشر على التعاون، وعلى الصدقة، وعلى التآزر والتكاتف، حتى تنقل هذه الأنفس الموت إلى مراتب الحياة العليا، وتغنيها عن ذل السؤال.
منذ فترة ليست ببعيدة كنت استمع وأشاهد مقطعا متداولا عبر صفحة الـ«واتساب» يظهر أن مدرسة استطاعت أن تنزع طالبا من حالة يأس قاتلة، أصّلت عنده الفشل، ألبسته إياها مدرسة أخرى، أو مدرس آخر، أو مجموعته القريبة، أو مجتمع بأكمله، فأصبح هذا التلميذ -بفضل هذه المدرسة- من الأوائل على امتداد مراحل الدراسة المختلفة فيما؛ لأنها أحيت نفسه من قناعة كادت أن تتأصل ذاهبة إلى تكريس البلادة والفشل فيه، وأنه أصبح تلميذًا لا يمكن أن يبقى في بيئة مدرسية محفزة للاجتهاد، والتنافس بين أقرانه من التلاميذ، وكما حدث في هذا المثال؛ يحدث كثيرا في كثير من أمثلة الحياة اليومية، عندما يجد الفرد نفسه في آخر قائمة أبناء المجتمع فقط؛ لأنه جاهل وفقير ووحيد، و يتيم ومقطوع الصلة بامتداد الأسرة وإن كان قطعا مؤقتا، حيث تأتي يد غنية بالرضا، وبالإيمان، وبالمودة، فتنتزع هذا الفرد من براثن السقوط «حي كميت ليس فرق..» إلى مستويات رفيعة من الحياة، ومن الانتشاء، ومن السمو، ومن التحقق، فإذا هذا الذي تعصف به الأرصفة ذهابا وإيابا، وقد يتعرض لكثير من المآزق الخلقية، يقف على رجليه، ممثلًا قيمة مضافة لمجتمعه بكل اقتدار، حيث انسل بفضل يد فاضلة من حفرة تكاد تكون قبرا إلى مساحة مشرعة من العطاء، والنور، وما نقرأه اليوم من فوائض المشروعات الوقفية نجده مثالًا رائعا يستحق الثناء، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.
يبقى القول إن الحياة تنبت من دهاليز الموت، وكما يقال أيضا:«الخير في بطن الشر».