نوافذ : البيانات الضخمة ومناجم الذهب

22 مارس 2022
22 مارس 2022

Ashuily.om

عرفت متأخرًا معنى "عندما لا تدفع ثمن السلعة فأعلم أنك أنت السلعة" أو بعبارة ثانية "كل شيء مجاني، أنت تدفع ثمنه" ورغم علمي اليقيني بهاتين المقولتين إلا أنني ما زلت مدمنا على كل شيء يقدم لي وبالمجان خصوصا في عوالم الإنترنت اللامتناهية. أكره المواقع التي تجبرني على الشراء وأحب الأخرى التي تقدم لي كل شيء بالمجان ابتداء من تحميل الكتب المجانية ورفع الصور وتحميل الفيديوهات والدردشة والاستضافات المجانية والاتصال بالصوت والصورة بالمجان وبت كالطفل الذي يفرح بهدية من الحلويات عندما يجد كل شيء وبالمجان.

أيقنت أنني كنز دفين وثمين لشركات التقنية والمواقع الالكترونية ومواقع التواصل صغيرها وكبيرها تعرف عني كل شيء أكثر حتى من نفسي، تعرفني متى أنام، ومتى استيقظ حتى عندما أغفل في بعض الأحيان عن موعد نومي تذكرني تلك المواقع –جزاها الله خيرًا- بأن موعد نومي قد حان أو عندما أتأخر في الاستيقاظ تذكرني بأنني لا بد أن أصحو، وتستمر هذه المجادلة بيني وبين مواقعي المفضلة طيلة اليوم فهي تحفظني عن ظهر قلب.

رغم يقيني وعلمي ومعرفتي التامة بأنني منتهك من قبل المواقع الالكترونية وألا خصوصية بات لي في شيء فقد أهديتهم كل شيء وعرفتهم على ذاتي ونفسي وبيتي وأسرتي وصوري ومحادثاتي، وما أحب من الطعام، وما أكره، وأصدقائي وموعد صلاتي وموعد غدائي وموعد دوامي ومتى أمشي ومتى أشرب قهوتي ونوعها وكل شيء تقريبًا ليس فقط عن نفسي وإنما طال الأمر كل من لهم علاقة بي وكل من أتعامل معهم حتى أن كثيرًا من الأسئلة والأسرار بت أهمس وأبوح بها إلى محركات البحث بدلًا من البشر علي أن أجد إجابة شافية عنها من الآخرين.

رغم معرفتي بكل تلك التفاصيل إلا أنني لم أستطع الإقلاع عن إدمان كل ما هو بالمجان في العوالم الافتراضية وتوفير الدفع للعوالم الواقعية التي باتت لا ترحم من شدة غلائها.

البيانات الضخمة باتت هي المسيطر على العالم فمن يمتلك المعلومة يمتلك القوة والحروب القادمة ستكون حروبًا على البيانات والمعلومات التي يخلفها أمثالي من المتصفحين ورائهم سواء بنقرة زر أو بابتسامة أو إيماءة أو صورة فكل شيء يتم تحليله الكترونيًا والخروج منه ببيانات ضخمة جدًا لا يستطيع البشر ذواتهم بطرقهم العادية تحليلها أو استنتاجها فكمية البيانات الطائرة في الهواء باتت كبيرةً وبحاجة إلى ماكينات عملاقة وذكاء اصطناعي رهيب كما يسمى "مناجم المعلومات" إضافة إلى الحاجة إلى أشخاص ذوي توجهات اقتصادية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو تجارية أو طبية أو صحفية أو غيرها من التوجهات للاستفادة من هذه البيانات لتساعدهم في تشكيل وصنع واتخاذ القرارات المناسبة.

انتهيت من قراءة كتاب ممتع عن مستقبل البيانات الضخمة كان بعنوان "الكل يكذب: البيانات الضخمة والبيانات الحديثة وقدرة الإنترنت على اكتشاف الخفايا" لمؤلفه سيث دافيدوتس الذي هو في الأصل خبير اقتصادي وكاتب مقالات رأي في نيويورك تايمز إضافة إلى كونه عالم بيانات سابق في جوجل، ورغم غرابة العنوان الذي يبدو للوهلة الأولى أنه لا يمت بصلة إلى موضوع الكتاب إضافة إلى غرابة صورة الفيل الضخم مع الحمر الوحشية في صورة الغلاف بنسخته العربية إلا أنك تصل إلى فهم الكتاب عند الانتهاء منه فهو يأتي بمنهج جديد في دراسة النفس والعقل من خلال تحليل البيانات التي يخلفها البشر وراءهم خصوصًا كما يقول المؤلف عندما يكونون بمفردهم أمام أزرار هواتفهم وحواسيبهم.

لن أخوض في سرد الكتاب فهو متوفر –وبالمجان– على المواقع الالكترونية، ويمكن تحميله وقراءته لكنني هنا أن ألفت النظر إلى أن موضوع البيانات الضخمة بات الهاجس الأكبر الذي يسعى عالم اليوم إلى امتلاكه والاستثمارات المليونية باتت عيونها مفتوحة على المواقع التي يتوافر بها أكبر عدد من البيانات وتحتفظ بمناجم الذهب من ملايين المشتركين

من أمثالي وأمثالك ممن يغريهم بريق المجان.

أعتقد أن الأوان قد حان للاستثمار في منجم البيانات الضخمة والمعلومات فما نخلفه نحن المتصفحين هنا في سلطنة عمان على الأقل كفيل بأن يساعد في تأسيس صناعة بأكملها قائمة على هذه البيانات ليستفيد منها التجار والمستثمرون والباحثون وصانعو القرار وغيرهم وتسهم في تحسين الحياة وجودتها وفي الصحة والسياحة والإعلام والخدمات العامة وغيرها من نواحي الحياة المختلفة التي باتت لا تستغني عن ضغطة زر المستهلك، ولكن قبل هذا فنحن بحاجة إلى تفعيل قوانين جلب البيانات والاستفادة منها وحماية البيانات الشخصية عبر الإنترنت.