نوافذ: الإنسان المغلول والممانعة!
الصوتُ الغوغائي الذي تتبعه جوقة من المُرددين أو المُعارضين، كلما تصدرت حادثة من الحوادث منصات التواصل الاجتماعي، يُفصحُ عن هشاشة وضحالة تنخرُ عصب المجتمعات أكثر مما يفصح عن حالة سجالية، فتتبدى لنا تلك الجموع المتعطشة لأي "فضائحية" تتصدر "الترند"، وكأنها تتمتع بصوتها الحر بينما تتضاءل فرديتها وسط الحشود الغفيرة!
في كتاب "الممانعة" للكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو، الذي عاش قرابة القرن، وقد عرفناه روائيا وصاحب كتابات ذات بعد تأملي فلسفي، رغم تخصصه في الفيزياء الدقيقة، "الممانعة" ترجمة الكاتب المغربي أحمد الويزي، يتساءل ساباتو إن كانت هنالك خطة للتصدي للرداءة والانحدار الذي يسحق الإنسان كل يوم؟ فهل يمكن بقليل من "الممانعة" أن نُعيد الأشياء لنصابها، في وقت بتنا نخسر فيه حوارنا مع الآخر على نحو تراجيدي أليم؟
ها قد تحولت اللذة من نسيج حياتنا الواقعية إلى حياة مُفترضة، في وقت صرنا فيه نُصادق كائنات شبحية ومفترضة، ويغدو كل أملنا أن تمنحنا "إصبع" تأكيدها على أنّ ما نكتبه ونرفعه من صور وآراء قد راق لها، الأمر الذي حولنا إلى عجلة لهاث لا تهدأ، فصورة مُلتقطة بمهارة لفنجان قهوة أو لوجبة إفطار جوار ديكورات مطعم أنيق، تغدو فيه الصورة أكثر أهمية من الوجبة وربما من الصحبة أيضا! ورأيٌ صاخبٌ مُحرض يُشعل زوبعة من الأحكام الجاهزة والسطحية التي نُدين بها هذا أو ذاك، لأسباب تتعلق غالبا بعدم قبولنا للمختلف عنا، تُحدثُ أعاصير من المشاهدات والمتابعات، الأمر الذي يدفع العقلاء للتنائي والعزلة حفاظا على أرواحهم من هذا التيه. ففي الوقت الذي نعتقد أن الانجذاب للشاشات الافتراضية يجعلنا مُتصلين بالعالم ومستجدات الحياة، فإننا نجد أنفسنا نخسر قدرتنا على العيش ضمن الجماعة بشكل إنساني.
وكما يبدو فإن العولمة "تفرض شكلا ثقافيا مُتغطرسا" تجعل الفرد تائها إزاء القيم الخاصة به، مُحتميا بالصوت الجماعي الأكثر حماية من فرديته الخالصة.
ترزح حياتنا طوال الوقت بين ما نأمل في فعله وبين ما نحياه ضمن قلق متنامٍ، "فهنالك صدع في الروح لا ينفك يحول بين الإنسان وسعادته"، ويرى ساباتو أنّ الكائن المغلول بأساليب الرفاهية لا يتجرأ في الغالب الأعم على المغامرة نحو تجارب عميقة، ولذا يدعو لرفض وممانعة كل ما يمكن أن يخنق وثبة الإنسان المتفجرة بداخله.
فالمجتمعات اليوم ليست موبوءة بالفقر وتغيرات المناخ والأوضاع السياسية وحسب، وإنّما أيضا بالبؤس الروحي، ويتكشف الأمر بجلاء بمجرد ملامسة سطح هذه المجتمعات، حيث "يظهرُ الهلع الثاوي في أعماقها التي قد تبدو ساكنة وهادئة"، فينجرف الناس دون معرفة بالوجهة التي يتعين عليهم الذهاب إليها: "مُرتعبين ومروعين، وقد عدموا التعرف على هوية اللواء الذي قيدوا للإنضواء تحته!"
في هذا التسارع العبثي، وسهولة أن نكتب شيئا ما وأن يقرأه الآلاف في ذات اللحظة، تغيرت نظرتنا لقيمة الكلمات، فلم تعد الجموع تقرنها بالتأمل أو بالبطء غير المُتعجل. صار البعض يلهو كمن يلهو بسُلطة متوهمة، فالكلمات اليوم تمنح "قيمة" لمن يتمكن من رفع عدد أتباعه ومريديه!
يرى ساباتو أنّ الإنسان عندما يتقدم في العمر فإن أقصى أمنياته أن يرتبط بذكرى من طفولة بعيدة، صوت الماء، أصدقاء الصبا، شغب وركض وسقوط، "قد لا تبدو أشياء عظيمة لكنها تقدم السلوى والعزاء، فكبار السن الذين يقضون بياض نهاراتهم في صمت، يرتدون لتلك الذكريات مهما تبدى بؤسها"، فعندما كان ساباتو يراقب النسيج الذي صنعته النباتات التي تسلقت جدار بيته المُحبب إليه رغم أنّه لم يعد سوى بيت خرب بنوافذ ذات مصاريع متآكلة ومفككة، كان يُدرك أنّه لن يستبدل هذا البيت بسبب الشيخوخة التي اشتبكا فيها معا.
فهل ستتكون لدينا ذكريات من هذا النوع ونحن نُسحقُ كل يوم تحت عجلات تُقوضُ أحساسنا بالزمن والبشر الحقيقين!
"لا الحب ولا اللقاءات الحاسمة في الحياة هي ثمرة الصدف وإنّما هي مُقدرة لنا بطريقة مُلغزة، وليس لنا إلا أن نُذهل إزاء تعرضنا لبشر مُحددين من بين مليارات الخلائق، كما لو كنا فصول كتاب قُدر لنا أن نتآلف"، ولأننا بين أوساط علاقات متنامية كل يوم وكل ساعة، فإنّ أبسط ما يمكن أن نمانعه هو الانزلاق الحاد نحو المكائد التي تحكيها لنا عناكب التقنية الشرسة!