نفسيات قُدّت من ورق
أميل دائمًا إلى تشبيه نفسية الإنسان بـ«المبنى» وقوة أساساته أو هشاشتها ومدى قدرته على تحمل المؤثرات الطبيعية التي قد تأتي عليه فيصبح عاجزًا عن صد هجير الصيف أو«شكم» هوجة العواصف وإسكات دمدمة الريح وتخفيف قسوة الشتاء وتوفير الأمان والسكينة لمن هم تحت سقفه.
إن البناء النفسي للإنسان يجب أن يؤسس منذ سنواته الأولى ليكون قادرًا على « مناطحة» مشاق الحياة وتوتراتها والسير في المنعرجات والدروب الوعرة. يُصنع من الفولاذ حتى لا يقبل الكسر عندما تسوء الأحوال، فالرهافة مرض ينخر هذا البناء فيغدو كالورقة الناعمة إذا شددَت قبضتك عليها أذيتها وإذا أرخيت القبضة انفلتت ولوّحت بها الرياح.
وإذا كانت دواعي صناعة نفسيات لا تهترئ وتتمزق بسهولة مهمة، فإن تلك الأهمية إنما تنبع من أن الحياة ذاهبة نحو التغير والتبدل شئنا أم أبينا فباتت بحاجة إلى « مسايسة» وفهم وتدبر فمن لا يقوى على الوقوف في الطابور يزاحم الآخرين ليشتري رغيف الخبز سيسقط أرضًا لا محالة ويُتخطى ويتم تجاوزه ثم يموت جوعًا.
سيسقط الشاب في أول مواجهة حقيقية مع الحياة إذا لم يستوعب أنها مُخادِعة ومضطربة ويجب أن يتقبل اضطرابها بحكمة وأن بذل الجهد الصادق والتميز فقط يشكلان المدخل الصحيح لاجتياز امتحاناتها.. لن يكون قويًا ما لم يخرج من دائرة التذمر المُغلقة بشجاعة ويستوعب حراك المجتمع.. إذا لم يتعلم كيف يتحمل مسؤولياته تجاه نفسه ولا ينتظر أن تُمطر السماء ذهبًا ولا فضة.
سيُصاب لا شك بالفشل في حياته الزوجية والأسرية والمهنية والاجتماعية لأنه لا يجيد قراءة الواقع وما يجري حوله قراءة متعقلة.. إذا لم يمتلك رؤية مستقبلية واضحة لقادم أيامه ويحدد أهدافه ويتخلى عن صنوف التشكي والندب والتمني والبكاء على الأطلال.
سيبدو وكأنه يعيش في كوكب آخر طالما لا يقبل بالتحولات المفروضة عليه فرضًا خاصة «الاقتصادية» فلا يمكن ونحن في عام 2023 والعالم يتخبط في أزمات اقتصادية وصراعات سياسية متوالية أن يرسم خططه ويدير مقدراته بعقلية عام 1980، فحوادث الكون وكوارثه تتوالد والأحلام لم تعد هي الأحلام ومتطلبات المعيشة تغيرت والأسعار انفجرت.. كما أن زمننا الحالي ليس بزمن الأعطيّات والهبات إنما زمن الإنتاج والإضافة.
يقينًا أن الفتاة التي تخرج للدنيا وهي لا تعرف عنها سوى صيحات موضة الملابس والمكياج و.... وارتياد منصات التواصل الاجتماعي ستؤول حياتها إلى الانهيار، فالمعركة القادمة بحاجة إلى امرأة جادة وصلبة تُدرك معنى المسؤولية وتعرف قيمة كل ريال يخرج من جيبها أو موازنة بيتها.
ولأننا على المستوى المجتمعي بتنا مقتنعين أن كل شيء ديدنه التبدل والتغير وعدم الاستقرار وأن ما ذهب لن يعود إلى سابق عهده من حيث وفرة فرص العمل وطبيعة الأجور وانخفاض قدراتنا الشرائية لأسباب منطقية معلومة وتحولات عالمية جذرية، فإن ذلك يُحتم تقبل الواقع والتعامل معه وإعادة صياغة المفاهيم التي تتصل بإدارة الحياة والمال.
يقتضي المستقبل صناعة نفسيات لا تصدأ وبناء أجيال تتمتع بالجَلدِ والوعي والفهم الصحيح لمتطلبات المرحلة القادمة التي سترفض أي إنسان قُدّت نفسيته من ورق.
آخر نقطة..
من قصيدة « الأحلام» لـ- بوشكين - شاعر روسيا العظيم
أيتها الأحلام
أين حلاوتك ؟
يا أيتها الأحلام
وأين بهجة الليل؟
لقد تلاشت أحلامي
والآن ها أنا ذا مستيقظ لوحدي
وسط العتمة العميقة
والليل الساكن يطوّق سريري.
على حين غرة
تتسلل الرعشة إلى أحلام حبي
فتفرّ مني
وتختفي بين الحشود.
مع ذلك
تبقى نفسي تعج برغبات الأحلام
ويتملكها شوق عارم
للإمساك بالذكريات.
عمر العبري كاتب عماني