نرى ما يحدث ونسمح بحدوثه!
كان ذلك أول ابتزاز وتنمر مررتُ به في حياتي، كنتُ في المرحلة الإعدادية، ووقتها قلتُ رأيًا صريحا في إحدى معلماتي بين ثلّة من زميلات الدراسة، دون أن أعرف أنّ ذلك الرأي العابر والطفولي سيُكلّفني عذابات قادمة. فكان أن تلقيتُ تهديدا من إحدى الزميلات بأنّها ستشيع ما قلت، الأمر الذي يعني أن تنتهي حياتي المدرسية، هكذا قالت لي مُهددة.
كنا في بداية التسعينيات، وآنذاك كان لحدثٍ من هذا النوع أن يُرعبنا ويُذهبُ النوم من أعيننا. ثمّ قالت لي: «لو دفعتِ لي مئتي بيسة كل يوم فسوف أحتفظ بالسر». المئتا بيسة كانت مصروفي اليومي وكان يعني ذلك أن أتضور جوعا طوال اليوم! امتدّ الأمر لعدّة أشهر، ثمّ بدأت تطلبُ أمورا أخرى وتُهدد بتلميحٍ مُستمر، كان قلبي يخفق وأنا أعدد كل الاحتمالات التي يمكن أن تحدث، وفي يوم ما طلبت مني أن أحضر لها هدية مميزة لعيد ميلادها.
بكيتُ لأنني لا أملك المال لشراء هدية، فقالت: «تصرفي وإلا أخبرتُ الجميع أنّ لكِ أفكارا وآراء مُغايرة». اشتد بي الحزن والقلق وشعرتُ بالعجز عن إخبار والديّ. وبعد تردد ذهبتُ إلى ابنة عمّي أطلب منها المال، فأصرت على أن تعرف القصّة، فحكيتُ لها ما حدث معي طوال الأشهر الماضية. في اليوم التالي جاءت ابنة عّمي التي تكبرنا بثلاثة أعوام إلى صفنا وعندما أشرتُ إلى الفتاة، ذهبت إليها وأرعبتها بكلمات قوية جعلت الصفّ كله يتفرج عليها، ومنذ ذلك اليوم لم تضع الفتاة عينها في عيني، فتلاشى بؤسٌ هائل كان يُلقي بظلاله على أوردة حياتي.
استعدتُ هذه القصّة بكثير من الشجن والحزن وأنا أقرأ -جراء تأخر الطائرة في مطار كازابلانكا- رواية «الجنّة» للكاتبة اليابانية مييكو كاواكامي، ت: زوينة آل توية، الصادرة عن دار الآداب. إذ نُرافق رحلة الفتى ذي الرابعة عشرة، والذي يُشعر بأنّه قطعة أثاث أمانها الوحيد ألا تُرى من قبل الآخرين، فنستشعرُ ثقل التنمر الذي يُبدد حياته، وكل ذنبه هو عينه الحولاء «فما كانت عيناه لتلتقيا»، يُفجرُ الأسئلة: لمَ لا أستطيع فعل شيء سوى طاعتهم؟ ما معنى أن يُؤذى المرء؟ لماذا أخاف؟ فعندما لا نرى الندوب، فذلك لا يبرر غياب الألم!
وقد جمع بين الفتى الأحول وفتاة -تحتفظُ بحذاء مُتسخ من ذكرى والدها- علاقة خاصة، فقد تشاركا الألم والرسائل المتبادلة، الرسائل التي أبقت الفتى متصلا بخيط الحياة الرفيع. إذ تُرينا الكاتبة الاضطراب الخفي للفتى، الألم الذي لا يصدر، ما يعتملُ في الروح، جراء ما يُهددها بصورة مستمرة. ولكن هل للآلام والأحزان معنى؟ والسؤال الأهم: هل تُنضجنا الآلام على نحو لا تفعله الحياة العادية؟ هل نبلغُ مكانا جديدا في الوعي؟ هكذا كانت صديقة الفتى تفكر، تقول له: «الحَولُ علامة، ولو لم تكن لدينا علامات لاختلف كل شيء»! هنالك أيضا من يُراقبون العنف ويصمتون، يظنون أن أيديهم نظيفة لكنهم متواطئون.
إن أكثر ما تثيره هذه الرواية هو الحنق والغضب، إلى أن تتبرعم فكرة الانتحار، كمحاولة أخيرة لإخفاء النفس المُعذبة، بكل هواجسها المرعبة، ثمّ ذلك السؤال الفلسفي العميق: من المذنب؟ المتنمر أم الذي لا يصد التنمر؟
فكرتُ في كل الذين تعذبوا في الظلمة الحالكة لمجرد اختلافهم في علامات الجسد أو الرؤى والأفكار، الاختلاف الذي يعني غياب الأمان. هذه الرواية تجعلك تلهث، تضطرب خفقات قلبك، ترغبُ في الانتقام من شخص ما، فهنالك جسدٌ مُشاع للتنكيل وقد يتحول إلى كرة قدم بشرية صالحة للركل!
الكتابة على هذا النحو تُعلمنا شيئا، إنّها ليست انحرافا صغيرا عمّا يدور في حياتنا، إنّها إعادة فهم لصميم الأشياء التي شكلتنا.
تُعيدُ الصديقة تسمية الأشياء وتفسيرها كمن يُعيد ساقية الماء إلى مجرى آخر. فشعور المتنمرين بالذعر مُقيم أيضا، لكن علينا أن نخدش ما نتوهمه عنهم، تلك الهالة بأنّهم يسيطرون علينا.
لقد كنا «نرى ما يحدث ونسمح بحدوثه»، هذه الجملة تُلخص كل شيء، وكذلك هو استمرارنا في الصمت على الأذى يعني أن نتحول إلى أشياء، إنّنا نبدو كأشياء ولهذا يستعملنا الآخر كأداة للتنمر والابتزاز!