نثر على وتر
ما الكلِم إن لم يكن نثرا وما البيان إن لم يكن سحرا وما الشجن إن لم يكن نغما يُتلى على وتر، ومن نحن إن لم نكن حنينا أبديا للفردوس الخارجين منها عنوة. هذا ما تفعله الكلمات فينا حين تمتزج المفردة باللحن، وحين تفرد المعاني أجنحتها للتحليق بعيدا. هكذا انبجست الكلمات بعد الأمسية الشعرية والفنية التي أقيمت الأسبوع الماضي في مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه بصلالة ضمن فعاليات موسم ظفار الثقافي والرياضي 2023. أحيا الأمسية الشاعر علي العامري وعازف العود المصري الشاعر أحمد الواحي، قدمتُ الضيفين للجمهور فبين الكلمة ورنين الوتر تسلطنتُ وحدي، ناهيك عن تحقيق هدف الأمسية عبر اقتران الكلمة بترانيم العود، الآلة التي اكتشفت منذ حوالي خمسة آلاف عام وواكبت أشجان الناس وأفراحهم في الحضارات الغابرة. أما الحدث الأهم في الأمسية فكان عودة الشاعر علي العامري إلى منصات الإلقاء الشعري، بعد انقطاع لظروف العمل عن المناسبات الثقافية، إذ كانت آخر مشاركة له في صلالة في عام 2006، ضمن فعاليات مسقط عاصمة للثقافة العربية. بعدها انقطع (أبو قصي) عن الساحة مرة أخرى اللهم إلا مشاركة يتيمة ضمن الأيام الثقافية العمانية بإسبانيا عام 2013. وكان علي العامري متألقا في الفعاليات الثقافية في جامعة السلطان قابوس إبان افتتاحها. قرأ العامري بعض القصائد من ديوانه الأول (نقطة في الظلام) وقصائد أخرى من ديوانه قيد النشر (نجمة الصباح) يقول في إحدى قصائده:
«سأمسح هذه الدموع
التي تهطل على خديكِ
سوف آوي إلى ركن شديد
لأتمكن من العبور
إلى مرافئ حزنك النبيل
في منتصف الليل
حين ينعس القمر الساهر
تجوب الطرقات والمسالك
بين الأتربة وحوافي الطين الأزرق
بلون القلق المتماسك
بين أنياب الذكرى والحنين
وكما تفعل الراعيات القديمات
وقد تمنطقت بالأتعاب حول خصرها
عقصت شعرها بالخمار
في الهزيع الأخير من الليل
حين تلتف البتلات بقطر الندى».
أما الشاعر المصري وعازف العود أحمد الواحي، فقد كان اكتشافا جميلا لي شخصيا والجمهور، وتفاجأت أنه مقيم في صلالة منذ عدة سنوات، هو القادم من واحات مصر الغربية محملا بروح البدوي الأصيل وأضاف لها إبداعا على دندنة العود وشجن اللحن المصري وبلاغة الكلمات. سرني الأمر حين تحققت أمنية شخصية بمشاركة المبدعين العرب المقيمين في السلطنة في الفعاليات الثقافية، لأن الثقافة مظلتنا التي نستظل بها جميعا من عُمان إلى المغرب، ومساهمة المقيمين العرب يُعزز من التفاعل بين الأشقاء ويجوّد الإنتاج الثقافي الأدبي والفني.
يبقى عزوف الجمهور عن حضور الفعاليات الثقافية العنوان الأبرز لكل مناسبة، رغم الترويج المسبق للأمسية إلا أن الجمهور لم يحقق التوقعات، وخاصة الكتاب والأدباء والفنانين ممن يبحث عن بيئة ومساحة يلتقى فيها مع شركاء الفكر والإبداع، قد نبرر غياب الجمهور بسبب هطول الفعاليات في صلالة كالرذاذ خلال الفترة الماضية إلى درجة التشبع ربما، وهذا الأمر يحتاج إلى وقفة تنظيمية بحيث لا يكثر العرض ويقل الطلب. صحيح أن الفعاليات الثقافية في أي مكان لها جمهورها النخبوي إن صح القول، ولكن السؤال المطروح أين النخبة؟ وما مبرر غيابها عن المشاركة، إذ تحولت إلى ظاهرة ليس في السلطنة فحسب بل في دول عربية أخرى ذات كثافة سكانية أكثر وتتواجد بها مرافق ثقافية وعلمية عديدة، فعلى سبيل المثال حضرت ذات مرة ندوة ثقافية في إحدى الدول العربية لكاتب عربي معروف، فلم يحضر إلا الضيف ومقدم الأمسية وكاتب هذه الأسطر. وأُجلت الفعالية نتيجة لغياب الجماهير. كان جمهور أمسية نثر على وتر متفاعلا مع النغمات والكلمات إلى درجة أنهم تمنوا مواصلة العزف وإلقاء النثر.