من يفتقد الإدراك
يُتَصَوَّر -وفق إدراك الكثيرين- أن الكل في هذه الحياة عقلاء، ولا ينفك عن صفة العقلاء إلا الاستثناء، والاستثناء هنا محدود جدًا، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في أي تجمع بشري، بمعنى أن غير العقلاء لا يشكلون ظاهرة اجتماعية تبعث على القلق، ولذا فالناس كلهم في مأمن نفسي بأن لا يتطاول عليهم أحد ما، امتثالًا لهذه الـ«عقلاء»، لأنه بخلاف ذلك تتلبس الحالة الاجتماعية الكثير من القلق والتوتر، فيكفي أن يسمع أبناء القرية الواحدة أن فيها إنسانًا غير عاقل، فتستنفر النفوس استعدادًا لمواجهة هذا المارد القادم إليهم من أي جهة كانت، ولذلك لما كنا صغارًا وقعنا تحت مأزق الخوف من هذا غير العاقل الذي ترويه الأمهات سواء على هيئة إنسان، أو حيوان، أو شيء من مخيلة الذاكرة، حيث تخمد النفوس تحت أغطيتها الداكنة حتى لا يصل إليها هذا المارد غير العاقل فينقض عليها، كل ذلك تشيعه الأمهات حتى ينام هذا الطفل، فلا ينبس بكلمة إلى طلوع الشمس، لكنني أتوقع أن أطفال اليوم أكثر ذكاءً من حالنا، وأكثر جرأة، وأكثر وعيًا، فلن تنطلي حيل الأمهات على أبنائهم، هذا إذا كانت هناك أمهات يهمهن أن ينمن بعد أطفالهن. يأتي ذلك انعكاسًا لتطور الحالة الذهنية التي تتلقى مغذياتها المعرفية من كل حدب وصوب، على خلاف ما كنا عليه قبل أكثر من خمسين عامًا، حيث شح المعرفة، وقلة مصادرها، وإدمان الذاكرة على صور القرية النمطية (حقل، وضاحية، ومسجد، ومجلس، وبيت العائلة، وسكك الحارة ودروبها، وبعض الألعاب التقليدية البسيطة) وفقط، ولذلك لعبت «الجدات» دورًا محوريًا في تغذية الذاكرة الطفولية بقصص خيالية -غير واقعية طبعًا- بعضها تستعذبها الطفولة في ذلك العمر الصغير، حيث تترك للخيال التحليق بعيدًا بعيدًا، وبعضها تجنح بالمخيلة إلى التوجس والانكماش «الخوف»، ولأن الذاكرة المستهدفة غير واعية وغير مدركة، بمعنى غير ناقدة، فإنها كانت تتقبل كل ما يشحن به ذاكرتها، وكفى. هذه المقدمة لا تبعدنا كثيرًا عن المسألة الإدراكية، ونقيضها، ولعل نقيضها هو الذي يهمنا هنا في هذه المناقشة، فعدم الإدراك مصيبة من مصائب الحياة، وهي حالة نعيش صيرورتها الدائمة، وتجثم على المخيلة على أنها صورة نمطية مقبولة اجتماعيًا إلى حد كبير، وذلك من خلال تجاوز المدرك لنتائج سوء أعماله التي يقوم بها، ومع قبولها بهذا التسليم الذي يبدو في ظاهره، إلا أن البعض يجدها فرصة للخروج عن كثير من الحدود الفاصلة بين مختلف الأشياء، ونتيجة لذلك ترتكب الأخطاء المتعمدة، التي قد تجر إلى مآسٍ، ليس فقط للشخص المتعمد على ارتكاب ما يرتكب، ولكن على المجتمع ككل، كل ذلك تحت ذريعة واهية، وهي الحرية الشخصية، فتحت هذه الذريعة «الحرية الشخصية» يقسو الإنسان على نفسه، أكثر بأضعاف مما يعود بنتائج هذه القسوة على الآخرين من حوله، فارتكاب المعاصي -صغيرها وكبيرها- وتجاوز القيم والنظم، وما تعارف عليه أبناء المجتمع، كل ذلك يقع تحت بند الإدراك من قبل الفرد الذي يقوم بها، فهو يمارس ذلك مع «سبق الإصرار والترصد» وهو في الوقت نفسه مدرك مجمل النتائج السلبية المترتبة على ممارساته هذه، سواء أضر بالآخرين من حوله، أو لم يضر، مع اليقين التام، أنه واقع من رأسه حتى أخمص قدميه في الضرر على نفسه، ومدرك لذلك، وبكل تأكيد، وإذا كانت مصيبته في حياته كبيرة، فإن مصيبته -إذا لم يتب ويندم- في آخرته أكبر الكبائر، والسؤال هنا، هل يمكن تصنيف هؤلاء الناس من العقلاء؟