من وراء عتمة الزنازين
ذكّرني فوز رواية (قناع بلون السماء) للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) في دورتها الـ17 بالكاتب اليمني سليم المسجد، فكلاهما، أمضى سنوات من عمره في السجن، بل إن الأول ما زال في سجون الاحتلال التي دخلها، وكان عمره ٢١ سنة، قبل 20 سنة، وخلال هذه السنوات الطويلة واصل تعليمه، بعزيمة لا تلين، فالحياة بالنسبة له لم تتوقّف خارج أسوار السجن، لذا، اجتهد، فأكمل دراسته الجامعيّة عن طريق الانتساب إلى جامعة القدس، وكتب ونشر العديد من الكتب من بينها: طقوس المرة الأولى (2010) وأنفاس قصيدة ليلية (2013)، ونرجس العزلة (2017)، وخسوف بدر الدين (2019)، وأنفاس امرأة، وقناع بلون السماء، ولم يقف السجن حاجزا بينه وبين طموحه لدخول المنافسة على الجائزة العالمية للرواية، والفوز بها، فضرب مثالا في العزيمة والإصرار، وتجاوز اللحظة الراهنة بكلّ قسوتها.
أما الثاني، فكان أقلّ حظّا من الأول، فلم يظفر إلّا بـ(بوكر) الدم، فقد أمضى (13) سنة في سجن بمنطقته بمحافظة (المحويت) اليمنية، وكان عمره يوم دخل السجن على خلفيّة قضية قتل عن طريق الخطأ،( 14) سنة ومع ذلك، لم يستسلم لظلام السجن، فقد اشتغل على نفسه، وطوّر موهبته، وكان يدير تحرير مجلّة (نقش)، ومنها نشأت علاقة صداقة وتواصل بيننا، ولم أكن أعرف، يومها، أنّه كان رهين المحبس، وحين سيق إلى الموت ترك مخطوطات، ووصيّة بطباعتها هي: كائنات زئبقية (قصص)، تمتمات الغضا والرماد (شعر) -قامت بطباعته الأردنية وداد أبو شنب- الدورة التدريبية في أساسيات المقالة الأدبية، الدورة التدريبية في علامات الترقيم في الكتابة العربية، الشعر العمودي (أشكال القصيدة ومظاهرها)، الدورة التدريبية في العروض والتقفية، سحاب في بلاد الضباب (رواية)، ثلاث رسائل من أجلكم، الآن.. سأقرأ عليكم قصتي.
وإذا كانت ناشرة الرواية الفائزة رنا إدريس، صاحبة دار الآداب البيروتية تسلّمتْ (بوكر)، بالإنابة عن خندقجي، فأسرة الكاتب اليمني سليم المسجد لم تتسلّم سوى جثّته، بعد تنفيذ حكم الإعدام به فجر يوم ١١-١٢- ٢٠٢١ ولم تقف المناشدات الدولية حائلا دون ذلك، ولم يتراجع أهالي المجني عليه بالمطالبة بحكم القصاص، وقبول الدية، ولم يرأفوا بحال أسرته، فمضى إلى حتفه مردّدا في آخر منشور له، قول أبي القاسم الشابي:
جفّ سحر الحياة في قلبي الباكي
فهيـــا نجــــرّب المـــــوت هيّـــا
ولا أريد في هذه المساحة، إعادة فتح ملفه ودمه الذي ذهب هباء، وموهبته التي سعتْ إلى كسر قضبان السجن، ولا أكرّر الحديث عن إغلاق البشر باب العفو، والغفران، بينما بابه عند الله -سبحانه وتعالى- مفتوح، فقد وعد بمكافأة العافي، الذي له أجر عظيم (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)- (الشورى:40)، وقدّم نموذجا أعظم للإنسان في التسامح بقوله «ادفعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم»، ولم أشأ التذكير بما ورد في الأثر من أن مناديا ينادي يوم القيامة: «من كان له عند الله شيء فليقم فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان عن عفوهم عن الناس»، ففي دوّامة، الكراهيات، خسرنا الكثير من المواهب، وأصحاب الهمم، لأننا لم نعطِ فرصة للحياة، وبقينا أسرى روح الثأر، وأحاول أن أتجاوز فكرة أن ما جرى لسليم المسجد يعزّز ما ذهب إليه نيتشه من أن الأصل في الإنسان التوحّش، وما يؤخذ بالقوّة يستردّ بالقوة، فقد انتهى أمره، وحلّقت روحه في الفراديس، بإذنه تعالى، لكنني أردت الإشادة بالروح العالية التي لم تنكسر في جسده، فقد ظلّت وثّابة، وهي ترزح تحت قضبان السجون، متشبّثة بالأمل، مؤمنة أن الكتابة مقاومة لقبح العالم، وصلابة الكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، الذي أعلن في مفتتح روايته (قناع بلون السماء) أنّ (هاويته صعود) مستعيرا مقطعا للشاعر محمود درويش هو:
«غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ في وَجَع الحمامةِ..
لا لأَشرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان
لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْيا
وأعلن أنّ هاويتي صعود»
والكتابة حياة موازية، تجعل العالم من حولنا أكثر ثراء، يقول الشاعر نزار قبّاني: «أكتب بالحتمية ذاتها التي ترتفع فيها السنبلة، ويفيض البحر، ويكتظ الثدي بالحليب، إنني أكتب لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر، ومساحة الحزن أقل، أكتب لأغيّر طقس العالم، وأجعل الشمس أكثر حنانا، والسماء أكثر زرقة، والبحر أقلّ ملوحة..إنني أكتب حتى أتزوّج العالم، حتى أتكاثر، حتى أتعدّد» وهذا هو مجدها.