من جديد: هل ينفع الهربُ إلى المكتبة؟
من منا يستطيع أن يقوم بفعل أي شيء، دون أن تحيط به سحابة قاتمة من الشعور بالذنب. من يستطيع أن يحتفل أو يلتقي بالأصدقاء والأحبة، دون أن يبذل جهدًا كبيرًا لدفع فلسطين وما يحدث فيها إلى ما وراء ذهنه، ومع هذا ينتابه العجز الشديد جراء فعل ذلك. بالنسبة لي ولأصدقائي، ممن مثلت القراءة بالنسبة لنا، الملاذ الذي اعتمدناه كل العمر لكي لا يصبح هنالك مجال لأي شيء آخر عدا ما نقرأ، فقدنا أخيرا هذه الصلة، وإذا ما قرأنا، فإننا نتململ سريعا، وأكثرنا نجاة من عاد ليقرأ في التراث أو الأدب العربي المعاصر.
أحد الأصدقاء تأثر بأطروحة عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر «الحق في المدينة» وقد قدم للمكتبة العربية قراءة متواشجة ومتقاطعة مع أطروحة لوفيفر والمدينة العربية، يسائل حضور لوفيفر في الكتابة النقدية العربية واستهلاكه بتطرف خلال السنوات الأخيرة. لكن الأمر تغير كثيرا بالنسبة لصديقي هذا بعد السابع من أكتوبر الماضي، ومع استمرار العدوان على غزة، وجد أنه من السخف بما كان أن ينطلق من أدبيات أوروبية في أطروحته حول المدينة العربية، لم يعد يستطيع فعل ذلك بعد الآن، لذا انكب على التراث وما زال يفعل، علّ روحه تجد ما تسلو به.
أما أنا فلقد قرأت أدبا عربيا، والكثير من الشعر العربي في الآونة الأخيرة، لكنني وجدتُ ضالتي في الأدب اللاتيني، بدا أن هذا العالم أكثر صدقا وتوافقا مع نفسه، تلقفتُ ماركيز في «خبر اختطاف» التي لم أقرأ من قبل، وكولمبيا إبان الاختطافات البابلو اسكوبارية، أتهجأ الأسماء ببطء، وأحاول حفظ الأسماء التي تستخدم لتدليل كل شخصية. أحاول اكتشاف أصولها، ومتابعة الثقافة الحية والملونة للاتينيين. قرأتُ الرواية ببطء غير مسبوق، مكتوبة كما لو أنها تقرير صحفي، إلا أن ماركيز ببصيرته النافذة وشعريته المتجاوزة، يضيء لك النص في جمل مختارة، تشفُ عما تعجز اللغة الصحفية عن الإتيان به. سرعان ما تحول الأمر لفضول أعيشه للمرة الأولى تجاه الموسيقى اللاتينية، وتعرفتُ أخيرا على Camarón de la Isla، والتفتُ لصديق بجانبي قائلة: ماذا لو أن العالم أقل قسوة مما هو عليه، أقل رعبا، وأكثر دعة، ماذا لو أن مركز العالم هم اللاتينيون أو الهنود، ماذا لو لم يكن هنالك مركز واحد؟ ثم بكيت.
وفي الوقت الذي أحار فيه ماذا أقرأ لكي أنسى وأهرب. فقد أصدقائي ممن غادروا غزة قبل سنوات مكتباتهم، بعضهم فقدها في تدمير كامل لبيوتهم، أما معظم أصدقائي فلقد شاهدوا صور كتبهم وهي تتحول لنار، يحاول أهلهم التدفئة بها أو استخدامها في الطبخ. تخيلتُ أن أفقد مكتبتي بهذه الطريقة العنيفة وعرفتُ جيدا كيف أن ما يحدث الآن لا عودة منه على الإطلاق. تماسك بعض أصدقائي الغزيين وانهار البعض الآخر منهم، ميزوا تلك الكتب التي تحرق حتى والصور التي تصلهم مترددة وشحيحة في ظل انقطاع الاتصالات المستمر في غزة، أردتُ أن أسألهم واحدا واحدا: قل لي هل هنالك كتاب وحيد أوصيت بعدم حرقه؟ ماذا سيكون؟ قبل فترة أهداني صديقي الغزي أعدادا قديمة من مجلة الكرمل، تعود للثمانينيات والتسعينيات أوصى عائلته بأن ترسلها له من مكتبته الصغيرة التي غادرها قبل أربع سنوات دون أمل قريب بالعودة، وذلك مع صديقة لنا عادت لزيارة أهلها بعد سنوات هي الأخرى. لديّ الآن في مكتبتي إذن، مشاريع نجت من الحرق، جثثٌ محتملة لتدفئة الأجساد المتجمدة من البرد القارص، لدي أعداد من مجلة الكرمل، فيها رسمت فنانة فلسطينية من غزة لا أعرف إن كانت ما زالت على قيد الحياة، رسوما بقلمها الرصاص فوق القصائد، وفوق مختارات من ديوان الغائب لبول شاؤول، الأمر الذي دفعني يومها لكي أسأل صديقي هذا، هل أحبتك هذه الرسامة؟ لابد وأنها فعلت، خصوصا وقد تركت وردة لتجف في وسط ذلك العدد من الكرمل.