ملل في التاريخ... خمسة وسبعون عاما من النكبة
الكتابة عن الآلام النائمة في ذاكرة شعب ما قد تبدو أشبه بتقشير جرح قديم، فلكل ذاكرة شعبية قبورها الدارسة التي يتحاشى السكان الأحياء الاقتراب منها ونبشها خوفا من أن يكتشفوا أن خلف القبور مقابر جماعية! أما بالنسبة للذاكرة اليهودية في «إسرائيل» فإن الخوف من تقشير الجرح له وجهان متناقضان: وجه أول يخرج منه اليهودي ضحية للعنصرية النازية، ووجه ثانٍ يدخل إليه اليهودي جلادا
في خدمة عنصريته الصهيونية. وبقدر ما يمزق هذا التناقض بين الهويتين، هوية الضحية وهوية الجلاد، الذاكرة اليهودية؛ إلا أنه وبالقدر نفسه يصبح تناقضا محرضا على المزيد من العنف، صانعا من قتيل الأمس قاتلا من أجل اليوم والغد، قاتلا لا هاجس يحركه سوى أن يَقتلَ أكثر حتى لا يموت مرتين ويتحول مرة أخرى إلى عبرة.
لم تكن الشخصية اليهودية هي النموذج الوحيد في التاريخ لهذا التحول الدراماتيكي من هوية القتيل إلى هوية القاتل، بيد أن المدهش في حالتها كان سرعة هذا التحول في إعادة التموضع التاريخي للهوية الجديدة؛ فضحية الهولوكوست لم تنتظر أكثر من ثلاث سنوات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 قبل أن تتحول عشية النكبة 1948 إلى عصابة من القتلة المدججين بعنفوان الثأر التاريخي من النازية التي لاحقتهم في أوروبا الشرقية. يُفسر هذا التحول السريع الدور الذي تلعبه الصهيونية في تربية الأحقاد من أجل استثمارها في خدمة هدف سياسي في مكان بعيد كل البعد عن الأرض التي أنبتت أحقادهم الأولى (أوروبا) ومع أعداء جدد هم العرب الذين كانوا ضحايا هامشيين للحربين العالميتين بين القوى الاستعمارية، فضلا عن كونهم الضحايا المباشرين لتلك القوى في أوطانهم.
إن الفارق الزمني الضئيل بين نهاية المحرقة (الهولوكوست) وبداية النكبة ليس مسألة حسابية عرضية في سياق تدحرج الأحداث نحو الهاوية إذا ما أردنا أن نفهم، أو قل أن نتخيل الكلفة البشرية التي كلفها الحُلم الصهيوني في فلسطين. خذ مجزرة دير ياسين في التاسع من أبريل عام 1948 وعد من قبلها ومن بعدها عشرات المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية خلال الأشهر الأولى من النكبة في مدن وقرى عربية مُحيت تحت ضوء القمر الغافل فأصبحنا لا نؤرخ أسماءها إلا كأسماء مجازر متفاوتة على لوح التاريخ. قرية «الطنطورة» الشاطئية المطلة على البحر المتوسط كانت إحدى هذه القرى التي داهمتها كتيبة من لواء «إسكندروني» في الجيش الإسرائيلي بعد أسبوع واحد من إعلان بن غوريون «قيام الدولة».
مُحيت القرية عن وجه الأرض لتتحول مع الأيام إلى ساحة لمواقف السيارات، وتحت أسفلتها ترقد اليوم رفات مائتي عربي كانوا قد ذبحوا على أنقاض قريتهم ثم طُمروا في قبر جماعي، وذلك وفقا لما كشفت عنه صحيفة هآرتس الإسرائيلية العام الماضي. وفي العام الماضي أيضا أعاد المخرج الإسرائيلي ألون شفارتس اسم هذه القرية إلى الذاكرة من خلال فيلم وثائقي يحمل اسمها ويسرد مجزرتها في حوارات متباينة مع من شاركوا في الجريمة من جنود اللواء إسكندروني. وقد جاء هذا العمل الوثائقي لينفي الاعتقاد السائد لدى أجيال من الإسرائيليين الذين ظلت أسطورتهم تقول إن الفلسطينيين كانوا هم من بادر بالهروب من قراهم لتسليمها خالية للعصابات الصهيونية، مثلما تحاول الرواية الإسرائيلية دائما أن تحرر التاريخ بالمخيلة وأن تزعزع الحقائق بالأساطير.
بالنسبة للفلسطيني فجرح النكبة ليس بحاجة إلى تقشير لأنه جرح راعف منذ خمسة وسبعين عاماً لم يندمل بالتقادم. فالنكبة كما يعبر عنها إلياس خوري دائما لم تكن حدثاً تأسيسياً فحسب، بل هي مسار تاريخي متواصل. ولكن مع كل قراءة أو كتابة جديدة لهذا الجرح ينتابنا سؤال التلميذ الملول في حصة التاريخ: ما الجديد في كل ما نقرأ أو نكتب عن قضية فلسطين وعن خلاصتها النهائية التي حفظها أكثر تلامذة التاريخ بلادة منذ خمسة وسبعين عاماً، والتي تقول إن شعبا كاملا طُرد بقوة السلاح من ترابه وهوائه ومائه لكي يقوم على أنقاض مكانه شعب جديد متشرذم الأعراق والأجناس واللغات؟
أجل، إنها ثلاثة أرباع قرن قد اكتملت اليوم، والتلميذ الملول ما زال ضجرا من سردنا لحكاية يعرف سلفا تفاصيلها، ولا جديد فيها بالنسبة له سوى دمها الجديد الذي يراق يوميا على نشرات الأخبار أو ما تُفرج عنه وزارة الدفاع الإسرائيلية من وثائق تُرفع سريتها بين فترة وأخرى لتكشف عن مجازر جديدة تحت قرى محتها السنوات الأولى من النكبة. ربما هو ضجر الحقيقة من نفسها أو ملل يجتاح كل شيء، ملل في حصة التاريخ، ملل في الرحلة إلى المتحف، ملل أمام صورة الدم الذي يخفف الاعتياد تركيزه فيتحول بالنسيان إلى ماء صالح لري الحدائق العامة. وعلينا أن نعترف أننا نعاني من أزمة ملل في قراءتنا للتاريخ البشري ككل، والذي لا يخرج عن نمط عاداته وتكراره لنفسه في تنويعات مسرحية يتبادل فيها الأبطال والضحايا أدوارهم. وكما يبدو فإن اليهود أيضا يعانون معنا من عقدة الملل نفسها في قراءتهم لتاريخهم الذي يحاصرهم بخوفهم البدائي من الموت كما يعانون من «عقلية الحصار» التي يتقوقعون داخلها في رؤيتهم للعالم. ولذلك تأتي نتفليكس وارثة لإمبراطورية هوليود الدعائية ومُؤسِسةً على طريقتها مدينة ملاهٍ محمولة تعيد كتابة التاريخ بضخ مزيد من الأدرينالين في عروق عشَّاق الإثارة، تارة بإعادة إنتاج المأساة اليهودية في ظل الغيستابو (شرطة هتلر السرية) وتارة بتصويرها للقصص الخارقة لعملاء الموساد في عواصم عربية وأجنبية- هكذا تكسر روتين التاريخ الممل!
سالم الرحبي شاعر وكاتب