مقال: أنا لست شتيلر
قضيتُ شهرًا كاملًا وأنا أقرأ رواية شتيلر للكاتب السويسري ماكس فريش، بترجمة رائعة للمترجم المصري سمير جريس، والتي صدرت هذا العام عن دار سرد وممدوح عدوان، مدفوعة بفضول يتزايد تجاه الأدب المكتوب بالألمانية، فقد اعتبرت مواطنه روبرت فالزر أحد أهم الأدباء الذين تعرضتُ لهم مؤخرًا.
ومع ذلك من سمع عن ماكس فريش؟ المعروف أن كافكا تأثر بفالزر، لذا قد يكون صاحب القصة البديعة «كلايست في ثون» والتي يأتي في مطلعها: «الساعة العاشرة صباحا، تقريبا. إنه وحيد للغاية. يتمنى أنّ صوتا كان بجانبه، أي نوع من الصوت؟ يد، طيّب، وبعد؟ جسد؟ ولكن لمَ؟ هناك تستلقي البحيرة، محجّبة ومبددة في أريج أبيض، مؤطرة بالجبال الساحرة اللاطبيعية. كيف تُـغشِّي كلُّها وتُربك. الريف بأكمله -منحدرا إلى الماء- حديقةٌ نقية، تبدو أنها تفور وتتهدل في زرقة الهواء بجسور مليئة بالزهور وشُرفات مليئة بالأريج.
طيورٌ تغني بوهن تحت كل هذه الشمس، كل هذا الضوء. إنها نشوانة، ومليئة بالنوم، مرفقه متكئ على حافة النافذة، يُسند كلايست رأسه على يده، يحدق ويحدق ويرغب في أن ينسى نفسه» بترجمة جميلة للكاتب السعودي أحمد الحقيل، معروفا، خصوصاً بالنوفيلا التي اشتهر بها "مشوار المشي» والتي صدرت هي الأخرى بالعربية عن دار الجمل، إلا أنني أحبه تحديداً لرواية قصيرة أخرى عنوانها "ياكوب فان غونتن» وقد صدرت هذا العام أيضاً بترجمتين للعربية.
لم يكن اسم فريش مألوفاً بالنسبة لي، ومع ذلك بدأت بقراءة الرواية، التي تنكر شخصيتها الرئيسية في مطلعها أي علاقة لها بالمدعو «شتيلر» النحات السويسري الشهير، الذي فقد قبل ست سنوات ولم يره أحد، تاركًا وراءه مجموعة من الالتزامات المادية، وزوجة جميلة هي راقصة الباليه المشهورة التي تعاني من السل، ليقبض عليه بعد كل هذه السنوات، وهو يدعي أنه أمريكي قد مرّ بسويسرا في طريق عودته لبلده، منكراً أنه شتيلر ومستعد لتحمل السجن وكل العواقب الأخرى، مع أن خلاصه الوشيك يعتمد على اعترافه بأنه الرجل نفسه شتيلر الذي تبحث عنه السلطات السويسرية منذ ست سنوات. والذي شوهد آخر مرة في محترفه الذي ينحت فيه التماثيل والجص.
هذه الرواية المكتوبة بعد الحرب العالمية الثانية، تضع شتيلر في مواجهة مع معارفه بداية بزوجه، للتأكد من فشل ادعائه بأنه أمريكي وقد ارتكب جرائم قتل مروعة، ولا يعرف شيئًا عن سويسرا.
إنها عمل محير وصادم في قدرته على أن يجعلك في لحظة ما مدافعًا شرسًا عن حق إنسان في أن يكون إنسانًا آخر، مصيرًا آخر، مواطنًا بعيدًا كل البعد عن المكان الذي نشأ فيه، خصوصًا أنه يحمل عداءً خاصًا للنفس الشوفيني السويسري الذي تفشى في ذلك الزمان، وتلك النبرة المتعالية التي تجعل كل ما هو سويسري مقدسًا وغير قابل للمس، معتمدين على مواقف متغيرة لسويسرا من الحرب، وعلى ما يعتقدون أنه طبيعة صرفة تخص السويسريين وحدهم.
لكن في خضم ذلك لا نرى هذا الصراع وقد توقف عند هذا الحد، بل يغور عميقًا في أصغر تفاصيل الحياة التي عاشها شتيلر برفقة زوجه وعائلته، ومن خلال تلك المواجهات نقرأ عن تعقيد العلاقات الإنسان لا من ناحيته فحسب، بل حتى مع من ارتبط بهم في حياته الماضية، الكل يبدو مكافئًا له في التعقيد، فالراقصة زوجته لديها قدرة على تكوين رأي مستقل عن شتيلر وتجربتها معها، تمامًا كما يفعل هو، يقول أحد أصدقائي العلاقة الزوجية في هذا العمل هي أعقد علاقة قرأت عنها يومًا، وبالنسبة لي، هذا ليس حقيقيًا، إلا أننا نادرًا ما نضع أيدينا على كشف مناسب لهذا التشابك المضطرم مثل النار مهما بدا باردًا وعصيًا.
ولنتأمل الكتابة العذبة في هذا المقطع: «سار رولف في البداية إلى ورشة البناء، حليق الذقن، لكنه ما زال من دون معطف. تقع الورشة خارج المدينة، كان رولف حتى ذلك اليوميذهب إليها دائما بسيارته. كانت جولة كبيرة حتى وصل إلى هناك سيرا على الأقدام.
هیکل البناء لم يكن قد تم بعد في تلك الفترة، في زيارة رولف الأخيرة كانوا قد انتهوا لتوهم من صب الخرسانة في أرضية الطابق العلوي، ولم تكن زوجته قد ذهبت إلى الورشة مرة واحدة. الآن فاهتمامها الضئيل بهذا البيت! وقف رولف في غرف بيته المستقبلي، وكأنه ليس صاحب البيت، كان يضع يديه في جيبي سرواله، ومندهشا من أن المتنزهين يوم الأحد يتجولون في ورشة البناء، يمكن التعرف على الغرف، غرفة الحديقة بالشبابيك الكبيرة، الدرجات الخمس الموصلة إلى قاعة الاستقبال، مكتبه المطل على البحيرة، وغرفة النوم في الطابق نفسه، كل شيء وفق خطة البناء، الشرفة تنبت في تلك الأثناء، وفي كل مكان تناثرت مواد البناء، لقات من عازل السطح، أحجار المدفأة، أكياس بالأسمنت البورتلاندي، صهريج مدفأة الزيت، وطوب البناءالجدران الفاصلة، مواسير من الحديد الزهر، وأشياء من مختلف الأشكال والألوان، لا يعرف الهدف منها، وعلى كل حال فقد كان المرء يرى أن العمل جارٍ هنا، رغم ذلك شعر رولف بأنه بالأحرى يشاهد أطلالا».
نيويورك تايمز تقول عن هذه الحقبة من الإنتاج الروائي ضرورية لفهم الفترة الباردة، تماما مثل متابعة أفلام النوير ومطاردات الساحرات السياسية وموسيقى الروك أند رول، فهي تثير الحماسة نحو أسئلة الأخلاق والهوية التي تمت معالجتها بالخيال والسرد.
إن «شتيلر» التي نشرت عام 1958 تحمل طبقات متعددة من المعاني، فتسمح للقارئ باختبار التاريخ الشخصي لشتيلر كنحات وزوج وعاشق وسجين. وعلاقة وثيقة بالفيلسوف كياكغارد وشغف الإنسان بالحرية واختيار الذات.