معالجة الأفكار مخبريا
(ثمة سؤال جوهري لا بد أن يخرج من حيّز الكتمان، هل الأفكار ترسم خرائط للعالم من حولنا؟)
تلك الأفكار التي يطلقها العقل على نحو متكرر متتابع، سواء أكان ذلك في الصحو أو في المنام، تتم وفق عملية معقدة مرتبطة ارتباطا كبيرا بالعمليات الفسيولوجية والكيميائية في الجسم عامة، وفي الدماغ على وجه التحديد، ذلك الجزء الأهم من الجهاز العصبي للإنسان.
فالشعور بما حولنا والتفاعل معه عبر محيطنا الممتد؛ يولّد لدينا أفكارا تصل إلى الدماغ على هيئة نقرات كهربية، تحفزه لإحداث استجابات معينة، وأوامر وإشارات إلى الخلايا الحسية والنواقل العصبية المرتبطة بموضوع الفكرة، ولا يخلو ذلك الترميز من أن يفرز كيمياء معينة وهرمونات متنوعة، فدعونا نغوص في تلكم التركيبة الكيميائية التي تولّدها التغيرات الفكرية.
فهناك أفكار معينة كما أثبتها العلم تجبر الدماغ على إفراز هرمونات تحفز السعادة كالسيروتونين، وبعضها تدفعه إلى التركيز كالدوبامين، وبعضها تجعل الدماغ متأهبا مستعدا للتعلم كالجلوتامات.
ولا ريب في أن تكون الفكرة قادرة على تعديل وموازنة سوائل وكيميائية الجسم الداخلية، بما يتلاءم ووقعها على النفس، تلك الأفكار الإيجابية التي يشعر معها الجسم بخفة الشعور وانطلاقة الفكر، يقابلها النقيض من السلبية منها التي تعطي النفس الانهزامية والكبت العاطفي والفكري، فدعونا نغوص في تلكم التركيبة الكيميائية التي تولدها التغيرات الفكرية، بداية من أقراص البلاسيبو المخادعة التي تأخذك في رحلة علاجية تركز على البرمجة الداخلية أكثر من المستقبلات الخارجية في الأدوية العلاجية وغيرها، لننطلق منها إلى تجارب موثقة في عديد من المجالات.
البلاسيبو ذلك العقار الزائف ذو التأثيرات الخاملة، ليتربع بعدها عرش الأدوية، ليثبت نظرية التأثير الإيهامي للفكرة، فهذا العقار خال تماما من أية مواد علاجية سوى فكرة الشفاء والإيحاء والإيهام بفعالية الدواء.
مؤثرا بذلك على تقوية المناعة، وتنشيط إفرازات الغدد وموازنة كيمياء الجسد، وكل ذلك عن طريق إرسال إشارات إلى الأنشطة الدماغية، يتلقاها على هيئة ومضات كهربائية، وللفكرة فيها الدور الرئيس والفاعل في إرسالها وتنشيطها، أي أن الفكرة تمتلك جهاز التحكم للشعور بالحساسية تجاه الأمر.
لتكون الأمثلة على نحو رجعي لتجارب سابقة، تم من خلالها صب فكرة معينة في بوتقة العقل، وفي تجارب تهدف إلى الكشف عن قدرة الفكرة على تمكين الجسم من الاستجابة الفعلية لها، لتثبت وعبر سلاسل من التجارب في دراسات امتدت لعقود مضت الفكرة قدرتها على معالجة الاعتلالات الكيميائية في الجسم، وتحفيز القدرات الكامنة بدون التدخلات الدوائية والخارجية، فالفكرة وإن بدت مفهوما مجردا غير ملموسا، إلا أنها تحوي موجات تذبذبية تنتقل إلى الجسم وتخترقه، والأمثلة التالية ستجعلك تعيد النظر وتدفعك إلى الاعتناء بجودة أفكارك، وستعرف من خلالها إلى أي مدى من الممكن أن تأخذ الأفكار صاحبها في طريقها، ليتساءل بعدها في جوهر الأمر: هل هو منقاد لأفكاره أم هو من يقودها في حقيقة الأمر؟، فحسب المدرسة الرواقية "لا تسوء الأشياء، لكن تسوء أفكارنا حول الأشياء".
وقبل سرد بعضا من تلك التجارب أستعين بمقولة ريتشارد باخ: "لكي تطير بسرعة الفكرة إلى أي مكان؛ يجب أن تدرك في البداية بأنك وصلت".
فمن التجارب الطبية في العلاج الإيهامي، تجربة لباحثين من جامعة نوتنجهام البريطانية، حيث تم إيهام مريض التهاب المفاصل بأن التدليك يعالج المرض، وثبت بالتجربة أنه شفي من تلك القناعة التي تم غرسها في ذهنه، واستقبلها كعلاج بلاسيبو فعّال.
وتجربة تربوية أخرى كمحاولة منها لتطوير مستويات الطلبة في إحدى المدارس، بأن تم إيهام إحدى الفصول الدراسية بأنه صف العباقرة، وقد تبين ذلك بعد عدد من اختبارات الذكاء، ليتحسن بعدها مستوى الطلبة على نحو ملحوظ.
وأخرى نتوجه بها إلى التأثيرات الجسدية لقوة الفكرة لدى الرياضيين، وكتجربة فريدة تم إيهام متسلقي الجبال والمرتفعات العالية، والذين يتناقص عندهم الأكسجين كلما زاد الارتفاع، ولا بد لهم من حمل أكسجين مساعد، بأن تلك الأسطوانات التي يحملونها معبأة بالأكسجين، وإنما الحقيقة أنهم أمام تجربة تثبت قدرة الجسم على قبول الفكرة، والتأثر بها إلى حد ينقذه ويخلصه من مآزق عديدة، بينما في الحقيقة كانت الأسطوانات فارغة.
وكما يقول إبكتيتوس: "مدرسة الفيلسوف عيادة طبيب"، لتكون لديك فرصة حقيقية لإعادة برمجة أفكارك على نحو مستنير وأكثر إشراقا، ولتنتقل بأفكارك لتكون ذاتية التحكم في زمن بات فيه التطوير الذاتي أمرا مهما، تعبر بها دربا أقل معاناة، وبقدر أكبر من التحكم وامتلاك عالم داخلي أكثر تنظيما، ولا يكون ذلك إلا عبر التفكير الواعي اليقظ الذي يراقب الفكرة مرة بعد مرة، فكما يقول بوثيوس: "من يرد أن يكون ذا سلطان حقيقي، فليبسط سلطانه أولا على نفسه"، إيمانك بالفكرة لها تأثير إيهامي قوي فيكون لك ما أردته من الفكرة.