معادلة اللامعقول
ليس اللامعقول ذلك الذي يبتعد فيه خصمك عن الاتفاق معك عليه، كونه بعيدا كل البعد عن تلك الزاوية التي ينظر بها هو للأمر، ولا يشابه اللامعقول ذلك التصور الذي توقعته يوما أن لا يكون وأصبح ثم بعد حين من الأساسيات في الحياة، وهو لا يسير بمحاذاة تلك الأشياء التي اعتبرتها أنت خارج نطاق دائرتك.
نطرق باب اللامعقول كونه خروجا عن إطار الصورة الكونية المعهودة، وابتعادا عن منطقتك المأهولة بالمعرفة إلى امتدادات أوسع، ليخرج عن نطاق المألوف ويتجاوزه بسنين ضوئية، اللامعقول ليس فقط ما يتجاوزنا ببضع خطوات، بحيث يستطيع البعض رؤية مداها وباستبصار روحي واستقراء عقلي؛ بل هو ذلك اللامعقول الذي يتحقق فيه معناه الحقيقي ليكون لا معقول فعلا.
اللامعقول الذي يحلم كل مبدع في طريقه نحو تحقيق خطوات إبداعية في مجاله، فلا يلتمس منه سوى نقلات بطيئة صغيرة مترددة في طريقها الصحيح نحو الإبداع، حتى بات يقينا لدى أرباب العلوم بأن العلم ما هو إلا افتراضات تراكمية، تُبنى فوق بعضها البعض وتستند إلى ما سبقها، وبذلك يصدق فيك القول فلا تجد مناصا من الاستفادة مما سبق لتبني عليها ما لا يكاد يُرى بالعين المجردة، وما لا يمكن تسميته في كثير من الأحيان بطوبة في البناء أو خطوة جديدة، بل هي نثرات تبر مبعثرة مترددة حائرة نحو خطوة قادمة، بل إن اللامعقول وحده هو الخطوة الحقيقية التي تنطلق بك إلى الأمام، ووحدها الطوبة القوية المتينة؛ هي التي نعتمد عليها بثقة لترتص مع طوب العلم المتنامي عبر الأزمان.
وفي ضوء معطيات العصر الحالية، من تسارع معرفي وتقني بوتيرة يصعب مواكبتها بالإطلاع، حري بأن يكون من غير الممكن اللحاق بها، على نحو تتمكن منه من دخول معترك أن تكون فاعلا وبخطوات فارقة في تاريخ الزمان الحالي، إلا أن تلك الميزة المتسارعة تحمل في باطنها جوهرة يمكنك امتلاكها ككنز، فالزمان لم يتسارع لوحده، بل إن جميع معطياته باتت على نحو متسارع، بحيث أصبحت المعرفة متوافرة بسهولة، وإلى حد كبير بخلاف صعوبة الحصول عليها كسابق عهدها من سنين مضت، وتلك المعرفة جاءت بأشكال توازي تسارع العصر، فظهرت تقنيات تعلّم جديدة كالكتب الإلكترونية، والمواقع القائمة على تلخيصها، والدورات التدريبية التي تكسبك أصعب المهارات، والتي كانت سابقا بحاجة إلى ارتحال وسفر، وكذلك تلك المواقع القائمة على تلخيص جوهر الكتب ومضمونها في دقائق قليلة، فبات التعلم يسير بوتيرة أسرع توازي سرعة الزمان، فلا تسارع للعصر يفوق سرعتك في ضوء المعطيات الفكرية، والتسهيلات التمكينية المتاحة، ومع استغلال كل ما أمكن من تقنيات العصر، فيصبح من السهل أن تزيد من سرعتك وخاصة بأنه لا مجال للتراجع من تسارع المعرفة لعصر الثورة التقنية.
اللامعقول بتردده اللفظي المفخّم غير المعقول، والذي يستلزم منك دهشة ملامح لا تلقائية حين تتلفّظ به، فيكون للكلمة وقعها وتأثيرها، فنشعر بمعناها بلا معاجم وتفاسير فتوحي لك الكلمة وعلى نحو تلقائي بتلك الأمور غير القابلة للتصديق أصلا، يتجاوز فيها الحد المألوف لمسافات فرسخية شاسعة، لنقول بذلك بأن اللامعقول وكاسترداد لاعتباره الغائب فإنه انفلات عن المدار الكوني المعهود.
فنخترق الأنظمة البالية المتعارف عليها في تتبع المسارات الإبداعية، وتخرج عن الدوائر المرسومة لك، لتنفلت عن مدارك حتى، وهذا ما عبّر عنه محمد بن راشد آل مكتوم في كتابه التحفيزي رؤيتي، حيث يسرد جملة من تجاربه وتجارب والده في تحويل اللامعقول إلى ممكن وممكن جدا، ففي حين كان البعض ينظر إلى رؤيته بعيدة المدى، والتي تجسّدت في خطط تنموية لبلاده، بأنها ضرب من الحلم والخيال المحض، الذي تعدّى حدود الإمكانيات إلا أن قدرتهم على تحقيقها في أرض الواقع، ضربت لنا مثالا يُحتذى به كيف أن اللامعقول الذي ظننته يوما من المستحيلات؛ هو ما يُعتدّ به من مشاريع وأفكار وانطلاقات نحو الأمام والمستقبل.
وليس من قبيل اللغة التحفيزية الرنانة أن نطرق باب اللامعقول لتحقيق النقلات الثورية الإبداعية، والتي تتناسب مع العصر التقني المتسارع، بل إن ذلك حقا ما تحتاجه العملية الإبداعية، تصورٌ لذلك اللامعقول لتحقيق المنجزات، ولا يتأتى الرسم الذهني لذلك اللامعقول إلا عبر تصوّرات تتابعية، ورسم خطي ذهني لمسارات تطورية تتابعية مبدأها الأمس ومنتهاها الغد، فهذه القراءات الاستقرائية هي ما تفتح لك النوافذ مشرّعة إلى ذلك اللامعقول، الذي ترسم من خلاله وجهتك القادمة.
وإن كان لذلك اللامعقول معادلة فهناك حل لها بلا شك، وإن كان اللامعقول يسير وفق نمط ثابت؛ فمن الممكن قراءته على نحو استقرائي واستنباطي، وإن كان اللامعقول هو تجاوز للمحيط؛ بإمكاننا مد النظر ومن ثم الاستعانة بالتلسكوبات المتطورة والتي تتشابه مع تقنية التركيز العالية، والتي يمكن تفعيلها لرؤية ذلك اللامعقول.
وإن كان اللامعقول -كما ذكرت سابقا في أول المقال- هو انفلات عن المدار؛ فهذا يعني بأنه يتجرّد بذلك من كل القوانين المرسومة، فيكسر القاعدة ويفك الشيفرة على نحو يجاوز المألوف.
اللامعقول تبتعد فيه رويدا عن الوعي الجمعي، وتوجيه أفكارك برؤية ذاتية تتسم بالحرية الفكرية، ونتيجة لألم الخروج عن الفكر الجمعي يحاول الفرد بأفكاره المتفردة الكفاح من أجل إعلاء شأن المبدأ، وحيث لا بقاء إلا للفكرة الجديرة بأن تكون هي الفارقة المنقذة، ومع التخطيط الفكري يبحث باستقراء عن ذلك الاستقرار في تلك الأفكار البالية فلا يجده حقا، ولا يكون أمامه خيار سوى تتبع حاجته الملحة لذلك الاستقرار، فيكون اللامعقول هو قارب نجاة المفكر.
وتلك الرؤية التي تفوق التصورات المصحوبة بالأهداف الخادمة النبيلة، والتي لولاها لكان الحراك التطوري خطير جدا.
فنكون بذلك بحاجة إلى التسارع في الحصول على المعرفة وفق إمكانات العصر وتسهيلاته، فنستطيع الإطلاع على أكوام المعرفة بوقت قياسي قصير، وذلك عبر التسهيلات الرقمية، وأصبح بمقدورنا الالتقاء بالخبراء وأصحاب الاختصاص عبر لقاءات أثيرية، وأصبح من المتاح والممكن جدا التواجد ضمن تجمعات فكرية والقامات العالمية، والحصول على التراخيص للاقتراب من تلك الاختراعات الثورية، ومع وجود المرونة والحرية الفكرية أكثر عن ذي قبل، فتكون بذلك في المنطقة الإبداعية والتي بحاجة إلى فتيل من اللامعقول لينطلق قدما نحو الأمام.
لو كان اللامعقول له معادلة خاصة؛ فبالإمكان حلّها، وإن لم تكن له معادلة معينة فالأمر أسهل بكثير، ومن السهل خلق معادلة خاصة به، فقط أنت بحاجة إلى أن تعرف أن ذلك اللامعقول لا يصل بك إلى أبعد نقاط رؤيتك بل إنه يتجاوزها، لتسأل نفسك ثم ماذا بعد الهدف النهائي والأخير؟ وبالنظر إلى جوهر الأمر الحقيقي فتجد نفسك بحاجة لأن تكون صاحب قرار، فتنتشل رؤيتك من مدّ النظر لما هو يفوقها والبداية من جوهر الأمر.
فأنت بإمكانك تحديد اللامعقول وأنت في مكانك، وعبر تصورك الذهني للهدف النهائي الأخير، الذي تصل إليه بخبرتك في مجالك، ومن ثم تحديد عمق معنى ذلك المستوى وجوهره، وتبدأ من الجوهر وتنطلق منه، وليس على العكس المعتاد بأن ننطلق باحثين عن ذلك الضوء، لتنعكس الرؤية فتنطلق منه مبتدئا، كشعاع بارق يصل بك إلى مستوى احترافيتك ومهنيتك، وعلى نحو يحاكي تسارع الزمان ويوازيه.