معاداة السامية: اقتل التاريخ أكثر!

21 يناير 2023
21 يناير 2023

في الولايات المتحدة، وفي دول أوروبية شتى كألمانيا وبريطانيا، وحيثما كانت للأصولية الصهيونية يدها النافذة في المنظومة السياسية والرأي العام، فإن الأمر لا يتطلب مزيدا من الوقت أو الجهد لإعادة قراءة التصريحات الصحفية والمواقف السياسية المناهضة لممارسات الاحتلال في فلسطين قبل أن يجد أصحاب تلك التصريحات والمواقف أنفسَهم مدانين أمام القضاء والرأي العام بتهمة «المعاداة للسامية» أو «اللاسامية»، وهي التهمة التي تطورت على مدى العقود الماضية بفضل آلة الدعاية الصهيونية والتعاطف الغربي الأعمى مع المأساة اليهودية على خلفية الجرائم النازية ضد اليهود خلال حقبة الرايخ الثالث التي شهدت أعنف مثال لمعاداة السامية في التاريخ وفق الأدبيات اليهودية السائدة: الهولوكوست، غير أن الاتهام بالتحيز ضد اليهود أو كهراهيتِهم بدأ يأخذ أشكالًا ومظاهر مختلفة بعد قيام «إسرائيل»، وباتت ظروف هذه التهمة والتباساتها لا تنأى كثيرًا عن جو الابتزاز السياسي الذي يستهدف المستقبل المنهي لشخصيات سياسية وإعلامية حول العالم، بل ويهدد حكومات بأسرها، لتصبح معاداة السامية في السنوات الأخيرة واحدة من أخطر التهم التي تطال كل من يجرؤ على رفع صوته في وجه السياسة الإسرائيلية القائمة على طبقات من الفصل العنصري بين اليهود وغير اليهود من الخارج، واليهود العرب واليهود من غير العرب في الداخل. كما تطال هذه التهمة الأصوات الناقدة للفكر الغربي الداعم والمحابي لممارسات الاحتلال وجرائمه العلنية. وكأنما قد أُطيح بالوعي الإنساني والأخلاقي في شرك الفرضية الصهيونية التي تلغي الحدود بين الساميَّة والصهيونية، بين إسرائيل واليهود.

وبالعودة إلى جذور المصطلح (معاداة السامية) التي تعود إلى القرن التاسع عشر، فإن عددًا ممن يوصفون بـ«المؤرخين الجدد» كبيني موريس وإيلان بابيه وآفي شلايم يرون أن معاداة السامية ليست سوى ظاهرة أوروبية في بادئ الأمر، لم تعرفها المجتمعات العربية إلا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية. فآفي شلايم الذي أفاد كثيرًا من تجربته الشخصية كيهودي عربي (هكذا يعرِّف هويته) في دراسة الصراع العربي الإسرائيلي، يتحدث عن طفولته الأولى في بغداد بنوع من الامتنان لما يصفه بحالة من الانسجام الديني بين العائلات المسلمة والمسيحية مع الأقلية اليهودية في المجتمع العراقي قبل حرب 1967، الانسجام الذي سترثي عائلة شلايم خسارته بعد هجرتها إلى إسرائيل تحت ضغط نداءات الحركة الصهيونية لليهود العرب من أجل «الهجرة للالتحاق بالفردوس الجديد القديم الذي سيلُم شتات الأمة اليهودية». وهنا يبرز دور الكيان العِبري الوليد، بزعامة دافيد بن جوريون، في تلطيخ الشخصية العربية بتهمة المعاداة للسامية والترويج للمجتمعات العربية كمكان خطير ومعادٍ للأقليات اليهودية، والاستفادة بالتالي من هاجس الرعب الذي سيحفز تلك الأقليات على الهجرة أو «الهرب» من مواطنها الأصلية صوب إسرائيل، حيث سيعاني آفي شلايم من الازدراء الخفي كطفل يتكلم العربية في مجتمع عبري ينظر إلى كل ما هو عربي نظرة دونية.

مع ذلك، يومًا فيوم تتضخم الخشية في إسرائيل من «تآكل مقلق في الشعور بالذنب والمسؤولية العالمية» تجاه المأساة اليهودية في عدٍّ تنازليٍّ منذ القرن العشرين حتى أول التاريخ. هذا بالضبط ما حذَّر منه يائير لبيد الجمهور اليهودي قبل أكثر من عام بينما كان وزيرًا للخارجية، عندما كتب على صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالًا تحت عنوان «هل معاداة السامية عنصرية؟». يقلق لبيد كغيره من القلقين في إسرائيل من بهتان الشعور بالذنب في أنحاء مختلفة من جغرافيا الضمير العالمي. ولكن عن أي ذنب يتحدث السيد لبيد؟ عن مقتل ستة ملايين يهودي على أيدي النازيين. إنهم بالنسبة للبيد الضحية المباشرة لعنصرية الجنس البشري مجتمعًا ضد اليهود، العنصرية التي تتجاهل الصهيونية ما ينبت على آثارها من عنصريتها المضادة ضد العرب بعنوانها السافر: إسرائيل! ويدعِّم لبيد مقالته بإحصائيات تغذي قلق اليمين المتطرف قُبيل الانتخابات، لكنها تفضح في الوقت ذاته ارتباك الرواية الصهيونية لدى شريحة من يهود أمريكا ويهود إسرائيل (الجيل الثالث بعد المحرقة) وتكشف عن بذور «لاسامية جديدة»: 25 في المائة من اليهود الأمريكيين يعتقدون أن إسرائيل «دولة فصل عنصري» في حين يعتقد 22 في المائة أن إسرائيل «ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين».

قبل أن يعود رئيس الوزراء المستقبلي لدولة الاحتلال لاتهام الحكومة السابقة بالفشل في معركتها ضد كارهي اليهود حول العالم. باختصار فإن لبيد يشكو لليهود تراجع التعاطف الغربي في الآونة الأخيرة ويحذرهم من مصطلح جديد هو: التعب من المحرقة (Shoah fatigue). ولكن ماذا لو استيقظ الضمير اليهودي ذات يوم في إسرائيل على أهم خلاصة صادمة في التاريخ اليهودي المعاصر، تلك التي كان قد طرحها منذ عقود واحد من أبرز كتابهم الماركسيين، إسحاق دويتشر حين اعترف: «إنها لمأساة حقيقية ومروعة أن يكون هتلر هو أكبر مجدد للهوية اليهودية. وهذه تعتبر إحدى أصغر الانتصارات التي حققها بعد موته»!

الآن، لم يتبق لنا سوى أن نعيد النظر في مأساة قراءة التاريخ وفقًا للفرضية الصهيونية، أعني تاريخنا المشترك، وليس تاريخنا نحن أو هم على حدة. فقراءة التاريخ دون تنقيحه من أساطيره هو ما يؤدي بالإنسانية إلى مساقات معقدة تجعل من الحرب مسألة حتمية ومن العنصرية عملية توالدية لا تتوقف عند شكل معين.