مدن اللامكان
في مقال سابق، طرحتُ تساؤلًا عن تشابه الأنماط الحضرية في تخطيط المدن، ولماذا باتت كل المدن متشابهة في تصميمها وتخطيطها، فلا تختلف المدينة الأمريكية عن الآسيوية وعن العربية، فكل أنماط المعمار باتت متشابهة، وهي كما أطلق عليها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه اسم «لا مكان» أو مدن اللامكان، حين انتُزعت الروح من الأمكنة فباتت المدن باهتةً تحمل طابعًا معماريًا واحدًا تم استنساخه من مدينة واحدة.
المتأمّل لحال المدن في كثير من دول العالم يجدها نسخًا متكررة من نسخة أصلية واحدة، تتشابه كلها في نمطها المعماري الحديث، وتمتاز ببناياتها الشاهقة المتطاولة للسماء وتصميمها الزجاجي العاكس، وتكدّس محلاتها التجارية ذات الطابع الغربي على جنبات الشوارع المحيطة بالمدينة، مع محاولة إضفاء لمسات بسيطة على طابع المدينة العام.
كثير من المدن التي أتحدّث عنها فقدت هويتها التي كانت في يومٍ ما تميُّزها عن غيرها من مدن العالم المختلفة، والتحقت بقطار مدن اللامكان التي لا تنتمي إلى ثقافة معينة أو إلى إرث قديم أو إلى هوية استطاعت المحافظة عليها خلال فترة تاريخها الطويل. وربما يُبرر ذلك بعوامل عدة، أبرزها التوسّع العمراني الأفقي وزيادة أعداد السكان، وتحوُّل المدن من مدن صديقة للإنسان والبيئة إلى مدن صناعية وتجارية واقتصادية، فبات لزامًا عليها تغيير نمطها وهويتها ليتواكب مع الهوية الجديدة للمدينة التي لم تعد العمارة والإسكان خيارًا إستراتيجيًا بقدر ما هو التخطيط لاستيعاب أكبر قدر ممكن من السكان في مساحات ضيقة من الأرض. ولا يوجد خيار أنسب لتطبيق معادلة العمارة والإسكان من انتهاج المدن الرأسية كنموذج للعمران والبناء واستقطاب النماذج الجاهزة في البناء والتعمير التي أثبتت جدواها في بعض الدول، وإن كانت خصوصيتها تختلف عن خصوصيات بعض المدن الأخرى.
في مدننا العربية تحديدًا، لم يعد هناك ما كان يسمى بالعمارة الإسلامية أو العمارة العربية، بل إن كثيرًا من الدول، خصوصًا التي بُنيت حديثًا أو توسعت بفعل الطفرات الاقتصادية والتجارية والإسكانية، باتت تحاكي أنماطًا عمرانية غربية صرفة في البناء والتشييد والعمارة، وكأن ذلك النهج الغربي بات هو المفضل والسائد في أنظمة التشييد والعمارة، متفوقًا على أنماط العمارة الإسلامية التي لا تزال شاهدة على إرثها الخالد في القاهرة ودمشق والكوفة والقيروان وبغداد، حتى في إسبانيا التي لا يزال كثير من مدنها شاهدة على عمارة إسلامية تقف شامخة في وجه العمارة القوطية المنتشرة في أنحاء دول أوروبا. إن تغافُل أو تجاهل المعماريين والمصممين الحداثيين أثّر بشكل كبير في تغييب هذا النمط من العمارة الإسلامية، فنادرًا ما تجد مدنًا عربية اليوم تصطبغ بصبغة إسلامية، بل إن معظمها بات يحاكي الأنماط الأوروبية في التصميم والبناء، وقد يكون عزوف المصممين العرب عن الانخراط في تصميم خرائط مدنهم الكبرى وترك ذلك إلى الآخر غير العربي هو ما قاد إلى تلك النتيجة الحتمية من تغييب لتراث المدينة العربية وإرثها وثقافتها، وبالتالي تغييب لنمط العمارة الإسلامية.
لا ترتبط العمارة بالتشييد والبناء، بل تتعداها إلى آفاق أوسع في الثقافة والإرث الحضاري، وقبل ذلك كله هي تعكس الإنسان الساكن في المكان ومدى ملامسة العمارة لاحتياجاته اليومية والتعبير عنه في كل زاوية وركن من أركان المدينة؛ فالمكان لا يعبّر عن السكنى فقط، بل يتعداه إلى ملاءمته لحياة الإنسان. لذلك ظهرت اليوم مصطلحات مثل أنسنة المدن واستدامة العمران، اللتين تدعوان إلى العودة إلى تحجيم عشوائيات العمارة والعودة بالمدن لتكون صديقة وملائمة للإنسان والبيئة.
خلال الأسبوع الفائت، زرتُ قرية عمانية صغيرة كانت في الماضي تشتهر بأفلاجها المتدفقة وحصونها الدفاعية وواحاتها الغنّاء، ولقد خُيّل لي من إرثها السابق أنني سوف أمشي بين جنبات التاريخ وقلاعه، وأغترف من نبع أفلاجها وأقطف من ثمار مزروعاتها وكرومها، غير أن ما أحبطني وقتل اللهفة في قلبي هو أنني رأيت تلك القرية عبارة عن علب صندوقية متناثرة لا يعكس تخطيطها الحضري أي نسق معماري حديث أو قديم، بل هي بيوت مبعثرة وشوارع أسفلتية مقطعة، تمنيت أنني لم أزرها لأحتفظ بذكراها الجميلة في مخيلتي.
ما قصدته في مثالي السابق هو أن عبثية التخطيط والعمران تنتج عنها مشاكل طويلة وكبيرة تبدأ من الأرض وتنتهي بالإنسان ويمتد أثرها لسنين طوال بحيث يصعب علاج أي منها. لذا، فإن علاج أسقام العمارة يبدأ من اجتماع المختصين من علماء الاجتماع والسلوك والمخططين وعلماء البيئة والمناخ والأطباء، وممن يعنيهم أمر الإنسان والبيئة على طاولة واحدة لمناقشة التصوّرات الأولى لبناء نماذج معمارية لمدن إسلامية عربية عمانية تراعي الإنسان قبل مراعاتها لأي شيء آخر، بحيث لا تكون مدننا وقرانا العمانية مثالًا على مدن اللامكان المبعثرة حول العالم أجمع.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»