مدرسة الحياة !
ظلت منصة الفـيسبوك على مدى سنوات عديدة وجهة لكثير من المثقفـين، وكانت تدور فـيه نقاشات مثرية ومثيرة، وفـي هذه المنصة؛ كانت هنالك خانة عن المكان الذي تعلم فـيه المرء، أو المدرسة التي درس فيها وتخرج منها، فكان البعض يكتبون «مدرسة الحياة» إما سخرية من أهمية الموضوع، أو لشعورهم بأنه أمر خاص بهم لا علاقة للعامة به.
تراجعت مكانة منصة الفـيسبوك، واستحوذت منصةX -تويتر سابقا- على مكانتها كوجهة ثقافية، وظلت هاتان الكلمتان مثالا للسخرية والتندر؛ لكن أليست الحياة أعظم مدرسة حقًا؟!.
طوال قرابة العام ونصف العام من الإبادة الحية على مرأى ومسمع العالم، ظلت العصابات الصهيونية النظامية تقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وكانت الدروس والعبر تتوالى علينا نحن المبتلين بوجودنا فـي بقعة جغرافـية مليئة بالثروات الطبيعية، وتقع فـي قلب العالم الواصل بين الشرق والغرب، وهي المنطقة التي أكلت مليارات الأجساد البشرية طوال الحقب التاريخية المتعاقبة مذ بدأ الإنسان معرفة الحضارة واكتشاف الثروات والمصالح فـي أرض أخيه الإنسان.
فكانت الدروس الكثيفة التي تعلمناها فـي هذه الفترة القصيرة؛ كفـيلة بأن نراجع ما أنسانا إياه الزمن، أو ما أنستنا إياه لقمة العيش المؤقتة، وبأن نعيد استكشاف أراضٍ بدا أنها درست وانمحت أو استحالت أطلالًا كأطلال خولة «تلوح كباقي الوشم فـي ظاهر اليد»، فجاء الطوفان كاسمه، طوفان مقاومة وتغيير فـي شتى مناحي الحياة، مقاومةً جسدية وأخرى عقلية ونفسية.
وما بين السابع من أكتوبر قبل سنتين، حتى وقت الهدنة؛ أطل علينا مفكرون كما لو كانوا على أعراف الزمن، يراقبوننا ويراقبون رؤاهم وأرواحهم الحية التي ضمّنوها كتبهم وهي تعود حيَّةً ماثلة للعيان مرة أخرى، فأطل مالك بن نبي ليذكرنا بأن «القابلية للاستعمار» ما زالت موجودة، وأن من شروط النهضة أن تكون الشعوب الحرة غير قابلة للاستعمار رأسا، وذلك قبل أن تتحرر بفعل السلاح؛ فهي غير قابلة للاستعمار لغويًا وعقليًا وثقافيًا وجسديًا.
وأطل غسان كنفاني ليذكرنا بأن «موت سرير رقم 12» شيء لازم لأنه وكما يقول: «لكنني كنت أعيش من أجل غد لا خوف فـيه.. وكنت أجوع من أجل أن أشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن أصل إلى هذا الغد.. لم يكن لحياتي يوم ذاك أي قيمة سوى ما يعطيها الأمل العميق الأخضر بأن السماء لا يمكن أن تكون قاسية إلى لا حدود.. وبأن هذا الطفل، الذي تكسرت على شفتيه ابتسامة الطمأنينة، سوف يمضي حياته هكذا، ممزقا كغيوم تشرين، رماديا كأودية مترعة بالضباب، ضائعًا كشمس جاءت تشرق فلم تجد أفقها..».
والمسيري الذي لا تشعر بأنه توفـي قبل قرابة العقدين من الزمن، يكرر اليوتيوب كلامه كما لو كان حيًا يحاضر بيننا قراءته للمشهد والواقع؛ فما بدا أنه صلابة داخلية لكيان الاحتلال، تبيّن أن المسيري برؤيته الثاقبة قد أدركه مسبقًا ووضع المقصل على المفصل، فطفت على السطح الخلافات الداخلية للكيان الصهيوني، والتراشقات والفضائح والمعارك السياسية، التي ستخدم قضية التحرر من آخر الجيوب الاستعمارية فـي الكرة الأرضية، فكما لو أن الزمن يتيح له أن يسخر ممن ظل أعمى عن شمس رآها المسيري بوضوح، ونفاها آخرون لشدة سطوعها أو لفقدانهم القدرة على الرؤية، أو لتماهيهم معها.
أما صاحب الشوك والقرنفل، فلقد خلّد التاريخ مشهد حياته الأخير كما لو كان مشهدًا سينمائيًا لبطل خارق دافع عن مبدئه وكرامته وحرية أرضه وشعبه، فـي سبيل شعب وأرض القرنفل والبرتقال والزيتون.
رحل هؤلاء المفكرون والأدباء والمناضلون، وظهر آخرون بفكر تحرري نضالي تفاؤلي حر؛ لكن هؤلاء رُفدوا للمرة الأولى بمفكرين وفلاسفة وأدباء لا يتحدثون لغتهم، ولا يعتنقون دينهم، ولا يربطهم رابط بالقضية الفلسطينية سوى الإنسانية لا غير، بل هم من المفكرين اليهود فـي كثير من الأحيان، لتخبرنا الحياة بأن الدروس المريرة اللاذعة، هي ما تغير التاريخ، وليخبرنا هؤلاء المفكرون المتفائلون؛ بأن الحياة وإن بدت كالحة كئيبة، إلا أن الأدوات التي يستعملونها لا علاقة لها بالأمل الذي يبدو كقشة تحاول أن تمسك السقف كيلا يسقط، بل هي أدوات يرون عبرها هشاشة الكيان رغم أن جسده يعجب الرائي، وقوامه يعجب الزراع، وهو فـي حقيقته كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
هذه الحياة ذاتها، وهذا الأمل المنطقي الذي يثبت بأن ما بُني على باطل فهو باطل، وبأن الظالم إلى الهلاك لا محالة؛ هي ما يجعل المرء يستمر فـي نضاله، ويستمر فـي كدحه وكده، وصحيح قول طرفة بن العبد:
وَإِلّا فَما بالي وَلَم أَشهَدِ الوَغى
أَبيتُ كَأَنّي مُثقَلٌ بِجِراحِ
إلا أن بيتيه الآخرين، يدلان على مدرسة الحياة التي وإن تغيرت ظروف المعيشة وأدواتها؛ إلا أن روحها وقوامها ومبدأها ثابت لا يتغير:
فَالهَبيتُ لا فُؤادَ لَهُ
وَالثَبيتُ ثَبتُهُ فَهَمُه
لِلفَتى عَقلٌ يَعيشُ بِهِ
حَيثُ تَهدي ساقَهُ قَدَمُه
فالجبان مخلوع الفواد فاقده، ولكن الشجاع ثابت القلب والعقل بفهمه، فذلك الفهم وتلك البصيرة هما ما يثبتانه ويصبّرانه على ما يقاسي ويواجه، وأما البيت الأخير فهو كما قال الآخر فـي الحماسة:
قَدِّر لرجلك قبلَ الخطوِ مَوضِعهَا
فَمن عَلا زَلَقًا عَن غِرَّة زَلَجَا
فهل سيقدّر العرب مواضع أقدامهم كي لا تعصف بهم رياح ترامب أو يغرقهم تسونامي شي بينج؟ وهل سنتخذ الحياة وما يحدث فـيها مثالًا ومدرسة نستقي منها العبر بعقل ثبيت يعيننا على تجنب الدوس على ألغامها؟ أم سنظل نتندر إلى أن ندرك معنى الآية الكريمة «فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ»!.