محيطٌ من التفاصيل الصغيرة
كان صوتي في مناسبات عدة بوابة عبوري لقصص عشتها، وأسئلة أصبحت هاجسا بالنسبة لي لفترة طويلة من الزمن. ذلك الشيء الذي لن يتعرف على نبرته الحقيقية أحد غيري، لأن الصوت بمجرد أن يصدر عني يختلط مع الهواء فتتغير موجاته وتنحرف، أتذكر دهشتي عندما عرفتُ عن هذا في درس العلوم، عندما كنت طالبة في الابتدائية، حتى أنه لم يكن موضوع درسنا آنذاك لكن معلمتنا شاركتنا إياه، بكامل حيويتها لكي تُطلع الصغيرات على سبب أن صوتهن في كاسيت التسجيل يختلف عما يسمعن عندما يتحدثن. عندما قالت موجات، تخيلتُ البحر، وصوتي يشبه الموجة التي تأتي وتبتعد، ليست ذاتي وحدها وتمظهراتها، في سلوكياتي ومعنوياتي التي لا أعرف تماما كيف يستقبلها الآخرون، وكطفلة خائفة ومضطربة منذ ولادتها، فكرتُ هل صوتي قبيح؟ سيئ؟ مزعج؟ متكلف؟ يعبر عني؟
في الجامعة قرأتُ نيتشه، في الحقيقة لم تبدأ علاقتي به كما يجب، لأنني قفزتُ فوراً لقراءة إنساني مفرط في إنسانيته، ربما بسبب من إيقاع العنوان (الصوت مجددا) أكثر منه فضولي تجاهه كفيلسوف معروف، يأتي هذا الكتاب في شذرات، ثمة شذرة تأتي في جملة واحدة، لا يفارقني وقعها عليّ، يقول فيها ما يعني أننا و بينما نتحدث مع شخص آخر، ونستمع فجأة لصوتنا ونحن نقول ما نقوله، نرتبكُ لضحالة الفكرة، أو عدم مناسبتها، فنضيع، ونتردد بلا حد. بعد قراءة هذه الشذرة لطالما تخيلتُ هذا الشيء مثل وحش يبتلعني فيفصلني في خضم عملية تواصل حاضرة، ليجعلني بعيدة، أو لأكون دقيقة لأُعدمَ على الفور، وأُمحى. إن الصوت يمكنه إذن أن يصبح طريقة في الإلغاء، والموت، يبدو أن الحياة ليست سوى تجليات للصراع بين البقاء والمغادرة.
لم أتخيل على الإطلاق أنني سأعملُ في مهنة تعتمدُ على صوتي بالدرجة الأولى، وهأنذا أصبحتُ مقدمةً للبرامج على الراديو، عندما أصادفُ صوتي، في إعادة للبرامج التي أقدمها، يهزني شيء عميق في روحي ويعيدني لكل ذلك الخوف والارتباك، هل أنا هذه التي تتحدث الآن؟ ترا لماذا يأتي حرف الراء موغلا في انحرافه عما أسمعه مني؟ الأمر أشبه بدوامة، أو بئر، أو تصويرٌ لم أتوصلُ له بعد لمحدودية خيالي وهشاشتي.
أستخدم صوتي، لإعادة ضبط سرد يومي العادي، فعندما أشعر بأنني بعيدة ولا يمكن انتشالي رغم أنني أمسك بين يديّ كتابا أحاول قراءته، أقرأُ بصوت عال، ولا أعرف أبداً متى يتوقف الأمر إلا بعد مرور كثير من الوقت إذ وعندما أمسك بنبرة الكتاب، أقرأ بعينيّ وأجدُ نفسي في قلب العالم الذي يشكله كتابي، الصوت مرة أخرى وسيلة إحياء وإعادة.
الكاتبة كوندي ناست وجدت نفسها مضطرة لتسجيل كتابها لأن الناشر يعزم على تحويله لكتاب صوتي، تكتبُ في مقالة لها على ذا نيويوركر عن تجربة مواجهتها لصوتها: "يبدو صوتي مألوفاً ولكنه غريب في أذني – رسميٌ ودقيق ومكبر. الكلمات معروفة وغير معروفة: معروفة لأنني كتبتها، غير معروفة لأنني لم أواجهها أبدًا بهذه الطريقة. لم أرسم هذه الكلمات المكتوبة من خلال رئتي وحلقي أبدًا، مما جعلها تتحول إلى شيء جديد - قصة منطوقة، تصنعها أنفاسي من صدري. سوف ينتقل الزفير مباشرة من فمي إلى أذنيك. يبدو هذا حميميًا وشخصيًا ومحفوفًا بالمخاطر بشكل لا يطاق. أتساءل ماذا ستفكر بي".
أستعيدُ كل هذه الأسئلة هذه الأيام وأنا أعمل على تسجيل كتاب صوتي لمشروع لم يعلن عنه بعد، وجدتُ نفسي أغرق في الدوامة نفسها، محيطٌ كبير تثيره موجة صوتي التي تذهب وتعود، لذا بحثت عن أحد يشاركني الشعور نفسه، إن ٢٩ عاماً من عمري كافية لأعرف أن أي شيء نمرُ به ونعيشه، لا نعبره وحدنا، ربما يكون لكل هذه الأسئلة مسمى، متلازمة! مثل كثير من الاضطرابات التي لم تكن كذلك قبل تسميتها، كل شيء في هذا العالم يندرجُ تحت ملف، تحت نبرة عنوان ما (الصوت مجددا).
كاندي نوست ومع أنها لا تتحدث عن علاقة غرائبية بصوتها منذ الطفولة، إلا أن مقالتها هذه عن تجربة تحويل كتابها لكتاب صوتي، كانت ضالتي، تقول أنها تغوص في النص، مثل سيد يدعى رامزي لا أتعرفُ عليه لكنها تستدرك، أن جزءا منها ينزلق بعيدا مثل هذا السيد، الذي وبينما يقرأ عن السمك المفلطح، يفكر في المنارة. "أدرك أنني تجاوزت بالفعل المكان الذي تفتح فيه الستائر. هل فاتني الجزء الخاص بسو كوفينجتون؟" إن الصوت هنا موتٌ مجدداً.
فكرتُ عندها في كتاب كتبوا عن قصصهم الصغيرة والمخيفة وعندما واتتهم الشجاعة ليفعلوا ذلك، فعلوه أمام العالم أجمع بالكتابة عن هذه القصص، لا أظن بأن رواية قصص "قلق الأمسيات" لماريكا لوكاس رينفلد، التي حصلت على جائزة البوكر 2020 عن طفلة صغيرة تكبرُ في مزرعة أبقار ولأنها لا تعرف شيئاً أبعد من هذه المزرعة تصبح الأبقار وحياتها مجازها الوحيد، فهي عندما تتألم يشبه ذلك البقرة في لحظة ما، وعندما تنام يشبه ذلك البقرة أيضاً، عندما وبهوس محب تابعتُ الكاتبة الصغيرة ذات ٢٨ عاماً التي حصلت على أهم جائزة في كتابة الرواية حول العالم، عرفتُ أنها عاشت مع عائلتها في هولندا في مزرعة أبقار، ترى في اللحظة التي يمكن أن تقرأ فيها ماريكا قصتها هذا بصوتها هي، أي الأماكن ستنزلق فيها بعيداً، مع أي الكلمات ستجدُ صوتها يضغطُ بحدة إما هربا أو استعادة للنبرة التي ستعيدها من ذلك المكان البعيد؟ وكيف ستسأل نفسها يا ترى كيف تفكرون بي الآن؟
قبل بداية جائحة كورونا عرفتُ أنني أعاني من مشكلة في التنفس، ويبدو أنني بحاجة لإجراء عملية جراحية، يخيفني أن يتغير صوتي، لأن هذا وارد حسبما فهمت، ومع ذلك من هذا الذي يرفض أن يُمنح حياة جديدة وقصة جديدة؟