مجازر التراث !

21 ديسمبر 2022
21 ديسمبر 2022

متجولا في معرض مسقط الدولي للكتاب قبل بضع سنين، وقعت على كتاب لأبي منصور عبدالملك بن محمد الثعالبي اللغوي والأديب العربي الكبير صاحب التصانيف المشهورة في الأدب والبلاغة وفقه اللغة وعلوم اللسان والبيان، فاقتنيته مباشرة ودون تردد، إلى أن أودعته بجوار كتب أقرانه كالجاحظ والعوتبي والتوحيدي وغيرهم. ظللت أتحسس الغلاف كلما وقعت عيني على الكتاب وقد استقر في مكتبتي لوقت طويل، وكلما أردت قراءته أسمع صوتا خفيا يخبرني بأن وقته لم يحن بعد، فأجلت قراءته مرة بعد مرة. وبعدما فرغت من كتابة سلسلة المقالات عن "رهين المحبسين" أبي العلاء المعري ضمن سلسلة "البطاريق الكبار"، شعرت بحاجة ملحة لأن أقرأ شيئا مغايرا يريح القلب من مشقة البحث وكَبَد التقصي.

تناولت كتاب "الشكوى والعتاب وما وقع للخلان والأصحاب" المكتوب على غلافه بأنه لأبي منصور الثعالبي والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت. وكنت قد أزمعت الكتابة عنه فور انتهائي من قراءته؛ فبدأت بمقدمة التحقيق التي صدمتني أيما صدمة، خصوصا وأنها تجمع المتناقضات وتعيد المجازر المرتكبة بحق كتب التراث القيِّمة. تتحدث د.إلهام عبدالوهاب المفتي محققة هذا المتن في مقدمتها عن قصة المخطوط وما كابدته في سبيل تحقيق نسبته إلى المؤلف المزعوم (الثعالبي) والمخطوطات التي قارنتها للوصول إلى تحقيق هذه النسبة المزعومة. تتكون مقدمة التحقيق من عشرة فصول، تبدأ بالتوطئة وتنتهي بـ"التعريف بالثعالبي والزمخشري"، وتقع في اثنتين وثلاثين صفحة. وقبل الحديث عن المشكل أو الخلل الذي نحن بصدد الحديث عنه، لا يسع المرء إلا أن يحترم هذا العمل الجاد من المحققة في سبيل وصولها إلى حقيقة المخطوط رغم الضباب المحيط به من كل الجهات؛ وهذا لوحده إنجاز كبير يستحق الإشادة، وذلك لأن المحققة توصلت إلى النسبة الصحيحة التي لم يتوصل إليها كبار المحققين العرب والمستشرقون قبلها. ثم إن هذه المقدمة الرصينة تنبئ عن قلم كاتبها وأصوله الأكاديمية المتينة، كما أن سلاسة الكلمات التي تستعملها في مواضعها الحسنة؛ كلها شاهدة على أن كاتبها أحد القراء المخضرمين لكتب التراث الأصيلة والمتشربين لها.

تتجلى ثقافة الدكتورة ومعرفتها بالثعالبي في حديثها في الفصل الثالث من مقدمة التحقيق والمعنونة بـ"الشك في النسبة ودواعيه"، حيث تتجلى في نقدها للدكتور محمود عبدالله الجادر وكتابه "الثعالبي ناقدا وأديبا" وهو الذي أثّر عليها أول الأمر في بداية بحثها عن المخطوطات المتعلقة بالثعالبي، وعن الكتاب المنسوب إليه خصوصا، ثم في تفنيدها لشكوك الجادر بعد ذلك، وانتهاء بالباب الذي شرّحت فيه شكها في نسبة المخطوط إلى الثعالبي من المتن نفسه؛ كافتقار الكتاب إلى مقدمة المؤلف التي لا تخلو منها كتب الثعالبي وهو المؤلف البارع واللغوي الحصيف، وورود بعض الأبيات التي قيلت في الأمير الصليحي القائم باليمن، وهو الذي لم يشتهر ويُعرف إلا بعد وفاة الثعالبي بما يتجاوز الربع القرن، وأخيرا العنوان الموضوع للكتاب الذي هو في وادٍ، ومحتواه في وادٍ آخر تماما. ولا يسعني في هذه السطور القليلة أن أورد كل ما ذكرته المحققة من براهين وحجج على كل ما ذكرته وذهبت إليه، وعلى سؤالاتها المتكررة وشكوكها في النسبة وصحتها.

وكي لا يطول الحديث عن المقدمة وما لها، ننتقل مباشرة إلى النص الذي يشكل صدمة حقيقية بعد كل هذه السنين، وهي أن الكتاب الذي بين أيدينا ليس سوى "أبواب مستلة من كتاب "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار" للزمخشري. ولم تغفل المحققة البارعة الجواب عن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل قارئ لهذا الكتاب، حيث تقول: "بعد أن ثبت لنا أن المخطوط ليس للثعالبي، وإنما هو فصول من كتاب محقق ومطبوع.. ما جدوى نشر المخطوط الآن؟ ألن يكون عملا مكررا ومجتزأ من آخر مكتمل؟". لتتبع هذا السؤال بأربعة أسباب دعتها لنشره، تفرعت منها خمسة أصول هي الباعث الحقيقي لكتابة هذا المقال. وهي أصول يفقد الكتاب المُحَقَّقُ قيمته إن فقدها؛ كإهمال تخريج النصوص، وضبط النصوص -خصوصا أن اللغة عالية الحساسية تجاه الحركات، وما يصاحب تغييرها من تغير واختلاف في المعنى-، ومواقع السقط في النص التي حصلت في الطبعات المتقدمة لكتاب الزمخشري الكامل "وقد أدى ذلك -في أحيان كثيرة- إلى تفويت المغزى من القول، وضياع النكتة منه"، وفوات الدقة في الإحالات في الهوامش كالإحالة إلى بعض الكتب أو إلى هوامش متقدمة ليست موجودة أصلا! وغيرها، وفوات الدقة في ترجمة الأعلام، وأخيرا إهمال الفهارس.

تتحدث الدكتورة بعد كل هذا عن كتاب الزمخشري المنحولة منه أبواب عشرة ضُمنت هذا الكتاب المزعوم، فتذكر شيئا وجدته متطابقا عند مقارنتي لطبعات ديوان "سقط الزند" للمعري، وهو أنها اطلعت على كتاب الزمخشري بطبعته الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقارنته بطبعة لم تذكر دار النشر التي نشرتها ولكنها تقول بأنها وجدته -أي كتاب الزمخشري في طبعته الثانية- "قد سلخ تحقيق النعيمي -محقق الكتاب الصادر عن الهيئة- سلخا بما له من الحسنات وما عليه من المآخذ"، وهو ما حصل لي بالمثل عند مقارنتي لطبعة دار صادر وطبعة المكتبة العصرية لديوان المعري الآنف الذكر. وتتجلى المجازر المتكررة بحق كتب التراث في ختام حديث الدكتورة المحققة "لا يكاد القارئ يطوي صفحة من الكتاب، بل لا يكاد يستقرئ سطرا من سطوره إلا وفيه العجب العجاب من سوء الضبط وتجهيل النسبة، واختلال موازين الأشعار، والعبث في النصوص بإدخال المتباينات بعضها في بعض وتشعيث النص الواحد إلى غير نص، والتوهم في أسماء الأعلام، إلى غير ذلك مما لا يصح أن يُقال في حقه "تحقيق"".

يدرك القارئ لكتب التراث هذه المأساة المريرة حين يطَّلع على عدة طبعات للكتاب الواحد. ومما أذكره جيدا، أنني قرأت بعض كتب الجاحظ قبل فترة، وقد قرأت البيان والتبيين بتحقيق عميد المحققين عبدالسلام هارون، ثم قرأت كتابه الآخر "المحاسن والأضداد" بتحقيق مُهَلهَل ساقط؛ فخرجت من الكتابين وكأن مؤلف أحدهما غير مؤلف الآخر!. ويكفيك أن تقرأ الهوامش التي يكتبها المحقق الرصين لتدرك الهوة السحيقة بين التحقيق الجيد الذي لا يستحق اسم تحقيق كما ذكرت الدكتورة آنفا. بعد هذا كله، وبعد أن سحلت الدكتورة مدعي التحقيق؛ كان من الغريب أن يُثبَتَ اسم الثعالبي في وجه الكتاب المطبوع ويُنسب إليه بخط عريض "الشكوى والعتاب وما وقع للخلان والأصحاب لأبي منصور عبدالملك بن محمد الثعالبي" وكأنها نكتة ساخرة أو طرفة سوداء!. مع ما كان في أمر عنوان الكتاب من مندوحة عن استعمال العنوان الذي أُثبِتَ، وعن وضع اسم المؤلف الذي ظهرت براءته من الكتاب ونسبته إليه في المقدمة. أحيل القارئ الكريم إلى قراءة مقدمة الدكتورة والاستفادة من الكتاب الشيق الرائع وأبوابه العشرة الفريدة التي سنتحدث عنها في مقال قادم بحول الله.