مات ماركيز ولم يمت إبداعه
رحل الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز (1927-2014) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، ولكن إبداعه لم يرحل معه، إذ خلّف تركة من الأعمال الأدبية التي تُعد من الإنجازات السردية على مر التاريخ، وإن كانت كل أعماله قد خرجت إلى القراء بموافقته، إلا أن روايته -موعدنا في شهر آب- قد نُشرت بعد رحيله بعشر سنوات، وترجمت إلى العديد من لغات العالم ومنها ظهرت الترجمة العربية للمترجم السوري وضاح محمود ونشرتها دار التنوير، وكما كُتب على غلاف الرواية «هدية غير متوقعة من أحد أعظم الكتاب» وإن كان هذا السطر لا يخلو من هدف ترويجي للرواية، إلا أن الرواية بالفعل تستحق القراءة رغم صغر حجمها فهي لا تتجاوز 127 صفحة، تضمنت مقدمة لأبناء الكاتب رودريغو وغونثالو، وملاحظات المحرر كريستوبال بيرا، وأربع صفحات مصورة طبقا للأصل، نشرتها منسقته مونيكا ألونسو، منها صفحة خط عليها ماركيز بخط يده «موافقة نهائية، مؤكدة». في المقدمة كتب أبناء ماركيز أشبه بتبرير نشر الرواية بعد موت كاتبها الذي حكم على العمل كما -كتبا في المقدمة- بأن «هذا الكتاب لا نفع منه أبدا ولابدّ من تمزيقه»، وعللا ذلك بفقدان ذاكرة «جابو» وهو اسم لماركيز في دائرة أصدقائه والذي يقول «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء». وبطبيعة الحال فإن الذاكرة هي الإنسان والإنسان هو الذاكرة، ومن يقرأ رواية «ورددت الجبال الصدى» للكاتب والروائي الأمريكي الأفغاني خالد حسيني يدرك ما تعنيه الذاكرة وعدوها اللدود الزهايمر.
اشترك ابني ماركيز ومحرره الأدبي كريستوبال بيرا والمنسقة مونيكا ألونسو في إخراج مخطوطة الرواية من أرشيف ماركيز في مكتبة جامعة تكساس، ونشرت الرواية تحت إلحاح القراء الذين اطلعوا على أجزاء من المخطوطة. وحسنا فعل الورثة والمحرر والمنسقة حينما طرحوا الرواية في المكتبات؛ لأن عشاق «جابو» بحاجة إلى اكتشافات كل أعمال في العالم السحري الذي ابتدعه مع ثلة من كتاب أمريكا اللاتينية الذين أسسوا لما يُعرف بالواقعة السحرية في الأدب، وبما أنه قد تم التطرق إلى رفاق ماركيز في الشهرة الأدبية، نُذكّر بأن الكاتب والروائي البيروفي ماريو برجاس يوسا وهو صديق وغريم أيضا لماركيز بعد اللكمة الشهيرة التي وجهها يوسا له، قد حسم موضوع الكتابة والنشر ليقطع على ورثته وناشريه نشر وطباعة أي أعمال حدثت له بعد وفاته، فقد أعلن في أكتوبر الماضي لصحيفة -لاريبوبليكا- البيروفية أنه سيتوقف عن الكتابة بعد أن ينشر رواية -أهدي صمتي لكِ-.
تغوص رواية -موعدنا في شهر آب- في أعماق البطلة آنا ماجدلينا باخ التي اكتشفت نفسها وملذاتها مع رجال لا تعرفهم في ليلة واحدة في الجزيرة بعد سنوات من «سعادة تقليدية تحجب ما فيها من تناقضات كي لا تتعثر بها» كما وصفها السارد، لم تكتشف آنا نفسها ورغباتها في مشاركة رجل غريب لسريرها وأسرارها، بل اكتشفت سرا من أسرار أمها المواظبة على زيارة الجزيرة لثلاث أو أربع مرات في السنة، وإصرار الأم على الدفن في الجزيرة أيضا. وشعرت آنا ماجدلينا بشعور أمها بالحمية التي تدب فيها حين تذهب إلى الجزيرة في شهر أغسطس من كل عام لزيارة قبر الأم، يقول سارد الرواية «اعتبرت أن أسباب أمها تلك يمكن أن تكون أسبابها هي أيضا، وأدهشها التشابه بينهما. لم تحسّ بالحزن بل بالحيوية والنشاط لانكشاف ما كان خافيا عليها ومعرفتها أنّ أعجوبة حياتها تكمن في أنّها أكملت حياة أمها بعد مماتها». إذ كشف لها حارس المقبرة عن شخص يزور المقبرة في أوقات غير محددة في السنة ويضع أكاليل من الزهور باهظة الثمن على قبر المرأة التي يقف عند قبرها ساعات ثم يذهب بعد أن يكرم الحارس بالعطايا.
المميز في رواية «موعدنا في شهر آب» أن بطلتها أنثى متزوجة ولها طفلان، بخلاف كل أعمال ماركيز التي تحضر فيها المرأة ولكنها لا تؤدي دور البطولة، مثلما ذكر المحرر كريستوبال في إحدى مقابلاته الصحفية.
محمد الشحري كاتب وروائي عماني