مأساة أن تكون تبسيطيا
رغم ما قد يفهم عن أن الوجودية وجدت فضائها الخصب بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن القراءات تقول إن التفكير الوجودي إن صح هذا التعبير بدأ قبل ذلك بكثير مع كيركغارد، والنظر للعالم على طريقة الوجوديين بدأت مع أول فلاسفة الظاهراتية، ومع ذلك فإن إلصاق هذا النوع من تأمل العالم والحياة قد يثير أحيانًا نفورًا من هذه الأفكار على اعتبار أنها طارئة واستثنائية نشأت في ظرف طارئ هو الآخر، مما يجعل تبني هذا الموقف من العالم في سياق آخر مشبوهًا. أتذكر جيدًا صورة لسارة بكويل في كتابها الرائع "على مقهى الوجودية" وهي في بداية شبابها مع نسخة من رواية الغثيان بتعليق تحت الصورة: وجودية في الضواحي.
سارتر فُهِمَ بشكل خاطئ على الدوام، بل يمكن القول إن تردده، وشكوكه حول أفكاره وتغيراتها هي من دفعت من هم حوله لهذا الفهم الخاطئ، فمع تصاعد حضور الاشتراكية، كان عليه أن يبرر "الجحيم هم الآخرون" إذ غدا من غير المقبول التشكيك بروح الجماعة والرفاقية، قوام السياسة الاشتراكية، في فلسفة تُظهر الإنسان وهو مستغرق في صميم نفسه، وآلامه وروحه الممزقة، مما حدا بسارتر تقديم محاضرة طويلة ستطبع لاحقًا مئات الطبعات بعنوان: "الوجودية منزع إنساني".
كيف استقبلنا الوجودية إذن اليوم أو لأكن أكثر صراحة قبل عشر سنوات، عندما كنتُ في بداية حياتي الجامعية، أستطيع أن أجزم أننا لم نكن نعرف شيئا عن التنظير الوجودي، ولا صلة لنا بالسياقات التاريخية التي شكلت ذروة الفكر الوجودي، في حالتي كان لقراءة الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته الرائعة "الغريب" أثر هائل، إذ وجدتُ في انفصاله عن الواقع، في مشيته المتثاقلة، واغترابه ما يجسدُ حالة لطالما تعينت لي على أنها متناثرة في داخلي، مزقٌ من أحاسيس مقطعة ولا لغة لي للتعبير عنها، إذ هي ليست كلًا واحدًا، ومع قراءة كامو باتت أنشودة رغم نبرتها الحزينة إلا أنها قادرة الآن على أن تكون أكثر حرية في استقبال العالم كله.
أتذكر جيداً الانتقالة التالية وكانت مع قراءة الغثيان لسارتر، التي بدت لي منذ البداية أكثر صخبًا من الغريب، وتتطلب قدرًا عاليًا من الطاقة إما لمواصلة قراءتها، أو لتقمص شخصيتها الرئيسية وغضبها ونبرتها الساخطة، ووجدتُ في أصدقاء اشتركتُ معهم في القراءة جماعتي وملاذي، ورغم أننا هامشيون جدا إلا أن كثيرين أشاروا لنا في الجامعة التي درستُ فيها على اعتبار أننا متمردون تارة أو غريبو أطوار. لماذا أكتب هذا الآن؟ كنتُ أفكر في الأيام السابقة عن المشروع الذي ينبغي أن يعمل أحدنا عليه، وهو توثيق هذه الصلة بين السياسات التي منحتها لنا الفلسفة وحياتنا الشخصية في هذا المكان، إن لدينا مسؤولية تاريخية في التعبير عن هذا، كما أن لهذا النوع من الكتابة أن يكشف عن جوانب في غاية التعقيد حول التأثر والتأثير، وترجمة الكتابة في سياق تاريخي على سياق تاريخي آخر، ومدى تشرذم العالم في هذا النوع من التراكيب الفكرية، ثم إن هذا يمكن أن يجتر حضور هذه الأفكار في ثقافتنا الأولى، لعلي بذلك أذكر كتابًا كان مهمًا لي في مرحلة ما، وهو يجمع بين سيوران الذي عرف بعدميته والمعري في كتاب لحميد زنار بعنوان "المعنى والغضب: مدخل إلى فلسفة سيوران" إذ يقرأ التقاطع بين رؤيتهما للعالم مع اختلاف السياقات.
بالتأكيد إن هذا لا يدعو للكتابة المباشرة عن الموضوع، فأي من كتابتنا مهما ابتعدت يمكن أن تحمل مؤشرات وعلامات على هذه النظرة للعالم أو غيرها، مما قد يمكن باحثًا بعد عدة سنوات من قياسها وفحص تمظهراتها في مكان غير تلك التي نحسب أنها نشأت فيه.
مع تقدمنا في حضور الجائحة في حياتنا، ما زلت أحتفظ بأصدقائي نفسهم، "الشلة" التي التقت قبل عشر سنوات، لم نتغير كثيرا، نختلف وإن جمعنا شيءٌ نتفق عليه، أحدنا ينادي كل واحد منا بـ "الوجودي" أو "العدمي" ونضحكُ كثيرًا، بعضنا يفكر كيف أن هذا الاطلاع أفسده، أو على رأي سيوران تلك المقولة المبتذلة عن مأساة أن تكون واعيًا، مع ذلك كنا وبغير كثير من الإرادة، نتعامل حتى مع واقعنا الجديد وفقًا للميكانيزمات التي منحتها لنا رؤية العالم بهذه الطريقة.
نتذكر رواية الطاعون لألبير كامو، والالتزام الأخلاقي تجاه الآخرين والعالم، فكامو ليس عدميًا بل على العكس من ذلك تمامًا، ومع تفشي العدوى، لابد لشخصيته أن تتولى دورًا في مجابهة هذه العدوى. ثم إنه لطالما قال إن وسط كل غبار تنبثق زهور صغيرة تعني كل شيء، وهو الذي قال أيضًا عن أن سيزيف الذي يدفع الحجر على عكس الجاذبية إلى فوق الجبل، يجبُ أن يُتخيلَ وهو سعيد بينما يفعل ذلك.
ما أريد قوله إن هذا النوع من التأمل والتفكير في جذور ما نتبنى ونؤمن وفي جذور "الأيدلوجيات" التي تجتاحنا، فرصة ذهبية للتعرف علينا، قرأتُ قبل أيام تغريدة لكاتب عماني، فهمتُ منها أن تلقي الأشياء من الخارج، كاف لجعلنا نؤمن بشيء أو نتركه، أليست هذه قراءة ساذجة ومحدودة؟ أو لنقل قراءة تبسيطية تحاول الادعاء أنها تمسك بزمام عقال منفلت في وقت لم يعد فيه أي شيء غير متطير ولحظي ومبعثر، أجزمُ بأن هذا الكاتب لم يقلب مقاطع على تيك توك دون أن يشعر بالوقت أو لم ينصت جيدًا لأبناء جيل زد، وإن كان لديه أبناء ينتمون لهذا الجيل فإما عمل على تغريبهم أو إخافتهم منه حتى لا يستطيعوا التعبير بصدق عما يفكرون فيه ويعيشونه كل لحظة الآن.
هذا النوع من اليقين الذي لن يفيدنا في أي شيء فلا هو كما يدعي سيطرد عنا شبح استيراد الأفكار كما لو أنها منتجات من مجتمعات أخرى، ولا سيجعلنا نقدم أفكارًا ورؤى أكثر أصالة عن ثقافتنا. هو فكر خطابي يقصد به الدعوة "لإعادة التغريد" ودون وعي منه يقدم لنا هذا الكاتب قوله هذا كـ"منتج" آخر ينبغي أن يستهلكه، إذ إنه وفي جوهر طبيعة المتغيرات التي نعيشها يشكلُ تمثلًا آخر للأفكار التي ينتقدها ويعبر عن سخطه منه.