لغة من زخرف
اعتدنا القراءة بمفهومها العام، المستمد من أصل اللغة التي تتعدّى كونها لغات منطوقة تميّز بين الشعوب، بداية من ذلك الصوت وإيماءاته ونغماته التي تصدر عن الطفل الصغير، إلى لغات الشعوب واللغات البائدة التي تمكننا من فك شفرتها أو محاولة ترجمتها، أو حتى لغات البرمجة الحديثة، امتدادا إلى لغة قراءة الأعمال الفنيّة التي تعبّر عن نفسها بصمت، وكما عبّر عن ذلك هوجو «كثرة الإيضاح تفسد روعة الفن»، فسقف غايات الفنّ وأقصاها هو الإشباع الروحي، الذي يأتي من قراءته وتذوقه على نحو حر.
وغالبا ما يترك شأن قراءة العمل الفنّي للذوق العام، ولنمط الاهتمام الخاص المتفرّد، فتبقى لذلك معظم اللوحات الفنّية صامتة، ما لم يخلق فيها القارئ -قارئ العمل الفنّي- أو كما يمكن تسميته بالمتذوّق، معنى يهبها الروح والحيوية والجوهر، كإسباغ المعنى للعمل، أو اكتشاف المضمون المجرّد بأنفسهم، على نحو يكتمل العمل بهم، فيشعر المتلقّي والمتذوّق بالزهو، وهو يعرف بأنه مشارك فاعل في اكتمال المعنى.
وفي أحايين كثيرة قد لا يكون للفنّان مضمون عميق، ولا تفسير لتفاصيل عمله الفني، ولا يتمكّن من عنونته في معنى موجز، ورمز مختصر يحوي اللوحة وما فيها، فلا يملك غالبا بعد انتهاء عمله الفنّي سوى بروزة ذلك العمل، لتنتقل المهمة حينها منه إلى ذلك القارئ أو المتلقي المتذوّق للفن، فيبزغ المعنى حين يكون للعمل الفنّي أثر في نفس المتلقي، فيراه برؤية جديدة، فلا تكون بذلك لوحة مهمة بلا معنى وعديمة الجدوى.
إلا أن متذوّق العمل الفنّي بحاجة كعلم نقدي يوازي نقد الأدب، والذي له اختصاص وباع كبير في قراءة الأعمال الأدبية، حسب إطار أيديولوجي تحول إلى علم يدرّس في الجامعات، كعلم بمعرفة مؤدلجة تتطوّر رويدا عبر افتراضات نظرية.
وإلى الآن لا تزال قراءات اللوحات الفنية متروكة لما جُبل عليها من التلقائية، والحرّية في قراءة الأعمال الفنّية المرسومة، وفي أقصى حالات وأشدّها اجتهادا منه؛ فإنه لا يملك سوى أن يضع لها عنوان إن كانت ليست بمعنونة، ولا تحمل إطارا تصوّريا من الرسّام حول مضمونها، حيث لا مشكلة إطلاقا في مسألة اختلاف الأذواق، وبالتالي اختلاف القراءات وتعدد تفسيراتها، فيأتي المعنى على نحو متأنّق كالتناسق اللوني، وغرائبي كانغماس العناصر في بعضها عبر تجلّيات غامضة.
فمن السهولة أن تضع تصوّرا مختصرا لتلك اللوحات واضحة المعالم، وبمعطيات معروفة وعناصر قابلة للقراءة، فتعرف أنها تعبّر عن الأمومة أو الحياة أو وقت الغروب، أو غيرها من المعاني المفهومة، أو تلك التساؤلات الوجودية التي تظل بلا إجابات نهائية قطعية، وحتى ذلك الفنّ السريالي التجريدي الذي يرمز إلى أمر ما، لكن بتصاوير واضحة، فعليك أن تصف انطباعك عنه، وليس بالضرورة أن تشرحه، بل ربما تزيده غموضا وعمقا في المعنى، وبعدا مختلفا عبر معاني أكثر تعقيدا، كالاغتراب والتخيّل وتحسّسها من خلال اللوحة، فلا رابط مشترك بين قراءة العمل الفنّي سوى اللوحة نفسها، حيث «ينبغي أن يكون للفنّان أكثر من أذنين»، كما عبّر عن ذلك الكاتب والفنّان السياسي.
لكن أن يكون ذلك العمل الفنّي زُخرفا، فستكون حينها عالقا في التفاصيل، وكما يقول مصطفى محمود: «الفنّ زخارف، زخارف أقوال وزخارف أفعال»، فستكون حينها عالقا في جملة تلك التفاصيل، فلا عنوان محدّد يجمعها، ولا تعرف مبتدأها من نهايتها، فتعرف في تمازج الألوان فتعود بذلك إلى ما جُبلت عليه من تأمّل حائر، يملك مطلق الحرّية لأن يقرأ العمل الفنّي، أم يدير ظهره له، وما زلت من منطلق إيماني العميق بالفن، أحاول تكرار البحث عن خريطةـ تقرأ من خلالها العمل الفنّي، وخاصة إذا ما كان زُخرفا.
ليكون المعرض الفني «زخرفا» متأصّلا في أعماق الهويّة العمانية، بعناصرها الموروثة الأخّاذة، فكانت الزخارف العنصر الأهم السائد الذي جاء المعرض باسمه، والذّي تم تنفيذه بعد ورشة تدريبية لعدد من معلّمات التربية الفنّية بمحافظة الداخلية، لتكون مجمل الأعمال الفنّية باستخدام تقنيّات ملمسيّة، وبخامات ودهانات متنوّعة، توزعت ما بين ٤٥ عملا فنّيا.
لتكون قراءة تلك الأعمال عبر تتبّع ذلك الزخرف الفسيفسائي، أشبه بفك لغة مترابطة بالألوان، يعجز معها فصل مكنوناته، فقراءة العمل تشابه مقولة الكاتبة الأمريكية أنايس نين «القراءة هي فن الإنصات»، فتتعامل مع العمل الفنّي كمفهوم مجرّد فلسفي، عبر صياغة لغويّة تعبّر عنها شيماء فؤاد الكاتبة المصريّة: «صناعة العبارة، فنّ يحتاج لانتقاء عميق للكلمات، وفيض صادق من الإحساس».
قراءة اللوحة كقراءة باقي اللغات، بحاجة إلى فك شفرة خطوطها، إلا أن حروف العمل الفنّي عبارة عن عناصر وتصاوير، تعبّر عن الكلمات المفتاحية لمضامين المعنى، وما عليك سوى الربط بين تلك العناصر بوشائج من زخرف، وكما لخصّت كتب الاختصاص مراحل قراءة تلك اللوحات الفنية، عبر تسع خطوات ضرورية، لفك رموز العمل الفنّي لاستخراج معانيه، وذلك عبر إلقاء نظرة فاحصة على اللوحة؛ كبداية حتمية إلى تشكّل ذلك المعنى في ذهنك، والذي لا بدّ أن تثق فيه ولا تجعله يخذلك، ويتخلل البداية والنهاية مجموعة من التفاصيل، كثقتك بالعمل الفني وإيمانك به، واستنباط الجمال المتقّد فيه، لتحاول بعده أن تدخل في مونولوج داخلي، فتتساءل عمّ تتحدث اللوحة؟ ما الذي يحاول أن يقوله الرسّام حين رسم هذه التحفة الفنّية؟ وما المعنى المختبئ خلف تلك التفاصيل اللونية والرموز؟ ليتشكّل في ذهنك أخيرا ما هو أهم من المعنى اليقيني الثابت، المعنى الذي يتبدّى في الحيرة والافتراضات التي يقوم عليها كل ما حولنا.
فعند قراءة العمل الفنّي ليس بالضرورة أن تكون اللوحة أو العمل الفنّي بفكرة مقتضبة مختصرة رمزيّة، بل قد يكون بتفصيل مبالغ، وقد لا ينتظر منك الفنّ ويستجدي منك المشاعر، فقد يكون مفعما من الأساس بتلك المشاعر، مفرطا في إظهارها كما يبدو على الملامح، وتقديس الأماكن وبعض الرموز، وقد يتضمّن العمل الفنّي أكثر من عمل، ليأخذك عنصر واحد منها إلى ما يتجاوز الفكرة، ولا يخرج عن الإطار فيأخذك إلى حدّ التماهي مع الفضاءات الرحبة التي تكتسي بإندماج لوني يشي بالاتساع واللانهائية، لينبثق المعنى من الحواشي والزوايا، ويفيض من فوق الإطار، فتلك المساحات الفارغة أشبه بدعوة صريحة للفنّان أن تسطّر فيها معانيك الخاصة، التي يكتمل فيها المعنى الجليّ الفنّي للعمل، إلا أنه رغم ذلك يكون محصورا داخل لوحة وما بين الزخارف.