لستَ وحيدا بسببك!
يشتكي معظمنا من الوحدة، وعند بداية كل عام جديد نفكر في أننا سنركز بعض الجهد للتواصل بشكل عميق مع الآخرين. لدينا فكرة راسخة من أن الوحدة هي نوع من العطب الشخصي، وهو دليل على افتقار الوحيد للمهارات اللازمة ليحقق تواصلًا بنيويًا قد يؤدي به لا لوجوده مع الآخرين فحسب بل الشعور بهذا القرب وميزاته. لكن ماذا لو لم يكن الأمر خاصًا بالشخص الذي يشعر بالوحدة فحسب؟ ماذا لو كان هذا كسائر المشاعر الأخرى لها جانبها السياسي، وأن المجتمع يدفع بها ويكيفها بالطريقة التي خبرناها بها.
تكتب ليلي سانشيز عن هذا في مقالة لها على current affairs وتقول: إن علينا التفكير مليا في هذا المجتمع مفرط الفردانية، والذي يطالبنا بممارسة المسؤولية الشخصية، والذي سينتج بالضرورة طريقا محددا لإدارة عواطفنا؟ فعندما تقدم لنا الحلول للتعامل مع الوحدة، عادة ما تكون نصائح شخصية، تطالبنا أن نتحدث مع أحد ما أن نشعر بالوحدة، أو أن ننضم لمجموعة تطوعية، وكلها تعد حلولا زائفة لمشكلاتنا العاطفية، وما هي إلا بديل للحلول الكبرى التي ينبغي أن يعمل عليها الجميع.
الغريب أن تعاظم الشعور بالوحدة المرتبط بقيم العصامية والاستقلالية، يأتي بالتزامن مع تزايد الخدمات الاجتماعية المدفوعة والحث عليها، فهنالك خطاب يتصاعد مع كل عام حول جدوى العلاج النفسي حتى وإن كان باهظ الثمن، كما أن العديد من تطبيقات الهواتف الذكية اليوم، قادرة على أن توصلك بالأشخاص المناسبين للصداقة والعلاقات، بناءً على خوارزميات معقدة. وأنشأت بالفعل الكثير من الشركات التي تحقق أرباحا كبيرة وموسعة.
وبهذا فإن ما يحدث بحسب ليلي سانشيز هو انتشار ممارسات الباعة المتجولين في ثقافة وعقيدة تنمية الذات، والحلول السريعة، ومخططات التغيير، كل هذه الخيارات التي تعمينا عن الأسباب النظامية والهيكلية التي أدت لهذا التحول في علاقتنا بأنفسنا والآخرين. لا يتم التنويه لخسارتنا المرتكزات الاجتماعية المشتركة التي لطالما دعمتنا، الأمر الذي يؤدي لتفاقم مشاعر عدم الأمان والقلق الشخصي. فلكي نبني هوية عصامية «مستقلة» قادرة على أن تصنع نفسها بنفسها نعتمد أكثر من أي وقت مضى على الخبراء ومقدمي خدمات التنمية الذاتية التي تصفها سانشيز «بالسلعية» ولا أعرف إن كانت هذه ترجمة مناسبة، ربما هي أقرب لوصف طبيعة عملها أكثر من استخدام مفهوم «الاستهلاكية».
تعمل وسائل الإعلام الليبرالية على أن تبيعنا منتجات التدريب باستمرار، أما وسائل الإعلام المحافظة، فستخبرنا الكثير عن تضعضع دور العائلة والأسرة، وعن تفكك العلاقات فيها وعلى انحدار دور الرقابة الذي ينبغي على الآباء والأمهات ممارسته، حقا أنا أطلب منك صديقي القارئ أن تفكر في أسماء محددة مشهورة في مشهدنا العماني، ممن قالوا ويقولون وسيقولون: «الآباء الذين يتركون أبناءهم لوسائل التواصل الاجتماعي والذين لا يستطيعون تهذيب سلوكهم أو تحقيق وصاية فعالة عليهم» لابد وأنك تذكرت الكثير منهم.
قد تختلف المشكلات داخل العائلة الأمريكية، لكن الوضع معنا ربما يسوء وأن ليس بالقدر نفسه. مرد ذلك أن العلاقات الأسرية معنا ضاغطة للغاية، وهي ملزمة بحكم روافدها الدينية والاجتماعية وقد تتحول لمصدر للتوتر أو قد تكون مسرحا للعب دور معين نطَاَلبُ دوما بتقديمه. فلا يعني اللقاء الأسبوعي بالعائلة، أننا نتواصل معهم فعلًا! قد نعيش طوال الوقت مع عائلاتنا دون أن يتعرفوا علينا أو يفهمون الطريقة التي نفكر بها.
إذن ما هي الأسباب البنيوية التي قد أدت لتفاقم الشعور بالعزلة والوحدة؟ ترصد شانشيز عوامل من نوع: عدم وجود وسائل نقل عامة وسريعة ومتاحة للذهاب لرؤية الناس، التنمية الحضرية التي أدت للاعتماد الكلي والحصري على السيارات (وهي كيانات فردية جدا)، الافتقار للقدرة على الإقامة في سكن مريح، يتيح لنا استضافة الآخرين ومعرفتهم عن قرب. عدم وجود أماكن عامة للتسكع المجاني، عدم توفر رعاية للأطفال بأسعار معقولة، قلة الوقت أو الطاقة بسبب قضاء وقت طويل في العمل، واضطرارنا أحيانا للعمل في أكثر من وظيفة وقلة المال والأمان الاقتصادي الذي يسمح لنا بالانضمام للآخرين في لقاءاتهم التي ستكلفنا الكثير حتى وإن كانت في مقهى صغير هنا في مسقط.
بالإضافة لتمكن شركات تقديم المحتوى من تكريس آليات تسبب الإدمان دون أي شكل من القوانين التي تحد من قدرتها على استخدام بياناتنا على اختلافها لكي تقدم لنا (ما نحتاجه) - من المهم النظر للقوسين هنا بجدية- كلها إذن مشكلات ينبغي أن تقدم حلولا سياسية لإدارتها. وببساطة فإن ما تقوله سانشيز هو أن علينا أن نخلق مجتمعا مختلفا تماما يعطي الأولوية للحياة الاجتماعية إلى جانب الرفاهية. هذا ما أشارت إليه مليكة جبالي في مقدمة كتابها الذي يدور حول الاشتراكية: «لستَ أنت، إنها الرأسمالية».