كلهوِ الأطفال.. بل أكثر

21 أغسطس 2022
روزنامة التفكير
21 أغسطس 2022

تخيّل معي..

بين يديك قطع بازل، وعليك أن تحلّ أحجية الصور المقطوعة، على شكل صورة بانورامية لعقل الإنسان، ومهمتك ترتيب القطع لتكتمل الصورة، بعد أن تناهى إلى سمعك تعليمات حول إنجاز المهمة، وما أن تبدأ بالبحث عن أماكن القطع، حتى يتحفز دماغك على نحو كبير، ورغم الجهد والضغط الواقعين على دماغك، وما يصاحبه من اتساع للعينين، واكتساء ملامح الحيرة، وتتالي التجربة والخطأ الوارد جدا، لتجميع الصورة بالكامل، إلا أنه توتر لطيف للغاية، يُعطي للدماغ شعورا جميلا، يعرفه جيدا من يُدمن التفكير بمستوياته العليا، فيتبادر إلى ذهنك بأنه لأمر سهل حقا، فقط بعض المقارنات بذاكرة تصورية ما بين القطعة ومكانها المناسب، فتكتمل اللوحة معك، لكن تفاجأ بأن اللوحة بلا رسومات ولا لون حتى، فيتوجب عليك التركيز على شكل القطعة فقط، أيضا هذا سهل جدا، وما أن تكتمل معك اللوحة حتى تفاجأ بأن هناك قطعة من البازل مفقودة، هنا الأمر بحاجة إلى تركيز لم تعهده من قبل...أنت أمام مهمة خاصة حقا.

تلك الأحجية كانت نموذجا لعملية التفكير، التي تقود إلى معرفة ما تجهله، لتعود بها إلى مرح وبراءة الطفولة، ونقصد بذلك التفكير الموجه العميق، حيث يكون فيه توجيه فكرة سابقة لعملية إطلاق الأفكار تجنبا للعشوائية، وليتم تركيزها على نحو مبعثر، إلى أن يتم تنظيمها وترتيبها، للربط فيما بينها بما يحقق النتاجات الفكرية الجديدة، في حين بات من الصعب والنادر خلق عناصر جديدة، لتوجيهها نحو الهدف والسير باتجاهه، وبحافز كبير لإنجازه على نحو تام.

ولا ريب أن يعود "ماثيو ليبمان" أستاذ المنطق الأمريكي، ورائد تدريس الفلسفة للأطفال، وذلك عبر تأسيسه لبرنامج p4c لتدريس الفلسفة للأطفال، الذي يهدف إلى الخروج بأنماط تفكير تتطلب مهارات عليا من التفكير الاستدلالي، وتوليد الحجج والربط ما بين العناصر وتكوين المفاهيم حول الأشياء، بتفكير نوعي شخصي غير مقلد.

لتعود بذلك في تعاملك مع المهمات الفكرية بمرح الطفولة، والتي تظن بادئ الأمر بأنها رحلة داخلية من كليتك إلى الجزء الذي كنته سابقا، لكن وبتساؤل فلسفي وجودي: هل طفولتنا جزء والباقي من المراحل هي الكل؟ أم أنها كانت الكل ونحن انفصلنا إلى جزء؟ نجد أن الكل لا يكون إلا من الجزء، ولا يكون الجزء إلا مشابها للكل، وبنسبة وتناسب يأتي الجزء سابقا للكل، وحيث إن تقدم الشيء وأسبقيته يكون ذا أحقية أكبر، وبينما ينظر الكل إلى الجزء بعلّية، في حين أن الجزء هو سببية الكل، لنعود ونشكك وكتساؤل أزلي لا يملك إجابة واحدة، بل كمحاولة للتقريب ما بين التساؤلات والحقيقة، في كون الطفولة هي الجزء، بل هي الكل والمراحل التالية هي جزء يستوجب العودة إلى خصائص الكل، لنعود وبتنقلات عفوية ما بين الجزء والكل.

نعود إلى الطفولة ليس بمرحلتها العمرية، الممتدة من الميلاد حتى بدايات فترة المراهقة -أو نهايتها كما يرى البعض- بل العودة إلى خصائص الطفولة، لنستقي من لهوها المرح، والذي يأتي على نحو تخيّلي، ومليء بالحيوية ويقود إلى الانطلاقة والمغامرة، بعذوبة وسعادة، لا يخلو من كونه موجها إلى هدف معين، وغالبا ما يتغير مسارها مرة بعد مرة، فتلك الدمية الصغيرة بحاجة إلى بيت دمى من تصميمه، وركلات الكرة المتتابعة بحاجة إلى تصميم الملاعب، وغيرها من الأهداف المتتابعة والتي يحفزها اللهو وحده.

ولتجد بعد فترة وبتأملات رجعية؛ بأن ألعاب الطفولة لها دور كبير في تشكل المهارات الحقيقية لدى الفرد، وبينما يجد البعض أن السبب في ذلك يعود إلى ميوله التي تسبقه، أو أن تركيزه على ذلك لسنين عديدة في طفولته أهّلته بأن يكون بارعا في ذلك المجال، وقد يتجه آخرون إلى الحنين المباغت الذي يعيده إلى مرح وبراءة الطفولة مستعيدا لحظاته السعيدة، لتلطيف تلك الأهداف المادية التي يخاتلك الشعور بمدى جدواها، وفاعليتها في جلب السعادة إلى حياتك، ولتمر الأيام خفافا رغم جهدك الدؤوب.

وليس بالجديد عليك أن تعرف بالحكمة القديمة "الضحك هو أفضل الأدوية"، وما باحت به الدراسات، بداية من التصورات الفسيولوجية التي ترى بأن العمل بمرح وضحك يقوي الجهاز المناعي، كما أنه تمرين فعّال لعضلات الوجه، كما أنه منظّم لضغط الدم وحارق للسعرات الحرارية، ليقول شارلي شابلن متحيّزا للضحك "يوم بلا ضحك هو يوم ضائع" لنتوجه بالضحك إلى زاوية فلسفية ترى بأنه وعلى نحو جمعي يكون مع كل اختلاف للمألوف وخروجا عن العادة، فيصطبغ بصبغة فكاهية مضحكة، فكل ما هو مضحك كان أمرًا غير عادي، ويكون كزيادة أو نقصان عن الحد المتعارف عليه والمستوى الطبيعي العادي.

لنجد أن علاقة الضحك والمرح بالعملية الإبداعية ليست فقط علاقة تعزيرية، أو كونها من صفات الشخص المبدع، بل الأمر يتجاوز ذلك إلى كون الإبداع دائما محاطا بالأفكار الجديدة، مما يجعلها عرضة لأن تكون فكرة تبدو كلهو الأطفال، بل أكثر.