قوة النقد
أين تتمركز قوة النقد ونقد النقد وآدابه بين المشتغلين بالنقد؟
لعلّ من المستحسن السؤال عن تحلّي الناقد أولًا وقبل كلّ شيء بشجاعة نقد الذات. فأين هو الناقد الذي يمتلك تلك الشجاعة؟ قوة نقد الذات ومكاشفتها ومصارحتها وإعلان نقاط الضعف فيها قبل نقاط القوة والظهور، ثم إبداء الأحكام فيما تقوله اشتغالات النصوص؟
يقوم نقد النقد على وجود قاعدة فكرية ونظرة فلسفية واشتغال مستمر مع المفاهيم والمصطلحات، بهدف اكتشاف التفكير المعرفي حول بناء العديد من الظواهر الأدبية والاتجاهات والحركات الأدبية وتبيان استمرارية بعض الأنماط الأدبية أو توجيه القراء إلى الوقوف عند أظهر الخصائص الأسلوبية في النص الأدبي والفني.
وللوهلة الأولى، التي تبدو أقرب إلى الامتثال والتصديق، هي تلك العلاقة التقليدية المتصلة باشتغال النقد أو نقد النقد على متون النصوص، فالنصّ الأدبي وسياقاته هي الساحة الأولى لاشتباك الناقد مع المفاهيم والأساليب الأدبية، وهذا في حدّ ذاته، يدفع إلى الاعتقاد الخاطئ أنه لولا وجود النصّ الأدبي متمثلا في القصيدة والسرود بأنواعها لمَا استطاع الناقد أن يكون له أي عمل سوى قضم أظافره! لكن هذا الاعتقاد -مع مرور الزمن والتطور في أساليب المعرفة- لم يعد له أي معنى عميق؛ لأن الدراسات الثقافية والنقد الثقافي قد ساهما في تطور الدرس النقدي واهتمامات الناقد الفكرية والنقدية واتساع اشتغالاته، ومعهما كذلك، تطور مفهوم النصّ واتسع اتساعا كبيرًا، فبات كلّ شيء يمكن أن يشكِّل نصًا؛ بداية من جناح ذبابة محنّطة في مُتحف، إلى مِفك للبراغي، أو إطار سيارة قديمة مهمل في زاوية بجراج عام!
وإذا كان لا يزال للنص الأدبي وجاهته ومركزيته لدى العديد من الباحثين، وكذلك له تقاليده عند أنواع المتلقين المختلفين، فإن الجزء غير الواضح من اشتغال الناقد، سواء في ممارسة النقد بوجه عام، أو تخصص متقدم في نقد النقد ذاته، هو ذلك الجزء الخاصّ بالشجاعة وأخلاقها.
يروى تاريخيا، أن جان جينيه قد ضايقه ما كتبه الفيلسوف جان بول سارتر عنه، برغم صداقتهما المبكرة. فإبّان الأعوام 1945م-1956م كان سارتر يتمتع بهالة كبيرة في المشهد الثقافي في فرنسا، وكانت قد توّثقت بينهما وسيمون دو بوفوار عُرى صداقة نفسية وإبداعية معروفة، ترجمها سارتر خلال ذلك عندما أهدى دراسة أعدّها عن الشاعر شارل بودلير إلى جينيه، إضافة إلى ذلك، عَقَد سارتر مقارنة بين الروائي مارسيل بروست والمسرحي جينيه -مقارنة دارت حول اختيارات المرء الشخصية في الحياة- وهل إذا كانت هي التي تحدّد شكل الرواية ومضمونها، أم تتدّاخل ظروف أخرى خارجية تدفع إلى ذلك الاختيار؟ وهي بحسب تقديري أسئلة شائكة ومهمة وخِصبة؛ فلا شك أن اختيارات جينيه في حياته كانت أحد الاختيارات الاستثنائية المتطرّفة؛ فكيف لإنسان أو مبدع بحسب توصيفات العاقلين أن يختار بمحض حريته "السرقة والسجن والوعي بالشر" معًا بتعبير رمسيس عوض في كتابه (رباعيات الشذوذ والإبداع: جينيه، جيد، بروست، مان) إلّا إذا كان الأمر استثنائي ومعقّد؟
ظهر كتاب سارتر عن جينيه بعنوان (القديس جينيه) وخصّه فيه بستمائة صفحة، وبتعبير جورج باتاي فإن تلك الدراسة كانت "تحفة سارتر الذي لم يكتب أبدًا ما هو أكثر منها إشراقًا، حيث لا يفلت أي شيء من قوة الغبار العادي للفكر". لكن الدراسة أغضبت جينيه، قائلا عنها: "شعرت بنوع من القرف، لأنني رأيت نفسي عاريًا. بل شعرت أن شخصًا آخر قد عرّاني بيديه [...] لقد خلق سارتر فراغًا أتاح ظهور نوع من التّلف النفساني. وقد أتاح لي هذا التّلف فرصة التأمل التي قادتني إلى كتابة مسرحياتي. [...] بقيت على هذه الحال البائسة طيلة ست سنوات".
إنّ حياة المبدع في المجتمعات بوجه عام معرّضة للانتهاك، وشيوع القضايا الخلافية في تراث الإبداع الإنساني قضية تجرّه إلى المُحاكمات، لدرجة ظهر ما يُعرف بأدب السجون والاعترافات السير ذاتية، وكلما أوغل المبدع في اقتحام ما يُعرف بالخطوط الحمراء غير المستحب الكتابة عنها، أو حتى الخوض فيها، أو الإشارة إليها، كلما عرّض ذلك المبدع وكتابته إلى المسائلتين الاجتماعية والقانونية.
بالرغم من الاجتهاد لتقديم إجابات فإن ما يتنّزل اليوم عبر وسائط الوجود الافتراضي من قراءات انطباعية أو نقدية أو أحكام تظل معها الأسئلة المتكررة موجودة بقوة: أين تكون شجاعة الناقد الأخلاقية عند نقد النص أو العمل الفني؟ هل يفصل الناقد معرفته الشخصية بالمبدع أو الفنان أو المخرج، فيتوخى تناول المادة بالنقد والتحليل الموضوعيين، أم يُقحم معلوماته الخارجية ليبرر أحكامه النقدية؟ ما الذي كان سيتجاهله الناقد من "حياة خاصّة" للمبدع، فلا يُقحمها في تحليلاته أو استنتاجاته؟ ومن ناحية مقابلة إلى أي قدر سيكون المبدع أيضا متحررا من "الشخصي" أو "العنصري" أو "الطبقي" أو "الفئوي" في تلقيه لما كتبه الناقد عنه؟ هل هناك منطقة صفاء نقية؟ ألم تسهم بقدر كبير شهادة جان كوكتو في المحكمة التي أعلن فيها أمام القاضي- "أن جينيه هو أعظم كاتب في العصر الحديث"- في توجيه أنظار القراء إلى حياة مبدع مرّكبة وكتابة إبداعية لاذعة تترجحان على كفتي ميزان؟ وهل كان جينيه في حاجة إلى تلك الشهادة؟
علاقة المسرحي جان جينيه مع سارتر نموذجا حيويا على ذلك. كانت المرات التي عاشها جينيه متنقلا منذ مولده إلى تاريخ وفاته، بين المصحات النفسية والسجون والشوارع والإصلاحيات والتطوّع في الخدمة العسكرية، ثم التهرّب منها، واضحة في توجيه حياته والمنعطفات الكبيرة التي مرّت بها كتابته الإبداعية في الشعر والرواية والمسرح والمقال وأيضا إرشاداته الصّارمة إلى المخرجين المسرحيين حول كيفية إخراج نصوصه، وأيضا انخراطه في المقاومة الفلسطينية وحركة مناصرة الأمريكيين السود كانت لا تخلو من مفاجآت! لقد ظهرت "عقده المرّكبة" في مؤلفاته وكتاباته، فكتابة سارتر المشرقة كانت في أي مظهر من مظاهر جينيه، وهناك في الأفق يلوح ذلك التقرير الذي كتبه الأطباء النفسيون عنه، بأنه "يعاني من ضعف ذهني واضطراب عقلي؟"
إن الناظر اليوم إلى واقعنا الثقافي العربي، سيدهشه الكثير من الأحكام والآراء، وفي خلفية علاقة جينيه مع سارتر، يمكن الاستشهاد بقامات عربية كثيرة في المجالين الإبداعي والنقدي، لكن الدرس الأخلاقي المهم الذي سأختم به ما قالته سيمون دو بوفوار نقلا عن رمسيس عوض وهي تصف جان جينيه قائلة: "... إنه يُحسن الإصغاء لمحدثه ويستجيب سريعا له. [...] لاحظت عليه بعده عن النميمة واغتياب الناس [...] وبالرغم من أن علاقته بكوكتو بدأت تسوء فإنه لم يسمح لأحد بالهجوم عليه."
* آمنة الربيع كاتبة وناقدة مسرحية عمانية