"قبل أن ينقرض المنطق"

19 يونيو 2022
روزنامة التفكير
19 يونيو 2022

لا جديد في كون الحقيقة نسبية وبعيدة عن صفة المطلق المستحيل، فكل أمر مهما بدا خاطئا لا يخلو من الصواب في كثير من الزوايا، مستثنين بذلك تلك البديهيات والمسلمات، وليس بالجديد أن يقال لك أيضا انظر إلى حدث معين أو رأي ما من كل الجوانب، وليس من منظورك الخاص أنت فقط.

فتقلبه ما بين الإيجابية والسلبية، وبترجيح ما بين المصادقة والمعارضة للمقاربة بين الحدث ودلالاته، حتى تجد أنه يأخذ من هذا وذاك، لتصدق المقولة: "كل ما ثبت بالجدل، فبالجدل ينقض"، ولا نقصد بذلك المواضيع البديهية التي نرتجل فيها الأحكام على نحو تلقائي، بل نقصد بذلك المسائل الجدلية، وينطبق ذلك ويتكرر بشكل دائم، مستثنين بذلك طبعا الثوابت الدينية، وعقيدتنا الراسخة التي لا تحتمل المساس والتأويل.

حتى قيل: "بأن الشر في بطن الخير وهما متلازمان، وكما يقول أوشو: "لا يبصر طائر البوم إلا في الليل، فالنهار كثير السطوع"، أي كصاحب الموقف، قد يكون محاطًا بحواجز تحد تفكيره وعليه أن يتجاوزها بمعرفة آراء الآخرين واستشارتهم.

ونحن بذلك قد نكون حكّمنا تفكيرنا بمنطق، والذي اعتبر قديما أداة للتفكير، منذ أن كان أرسطو الأب الأول لعلم المنطق، الذي قال منحازا للمنطق وبلهجة شديدة القسوة: "من لا يحس ويعرف قيمة المنطق لا يقف على قبري"، ليقول بعدها الفيلسوف الألماني المؤثر في النظريات المعرفية (إيمانويل كانت): "إنه منذ أيام أرسطو لم يتراجع في المنطق خطوة إلى الوراء، وكذلك لم يتقدم إلى الأمام".

فإن كان المنطق أداة لتقويم الفكرة، وترجيحها ووضعها في ميزان العدل، فإن ذلك المنطق أيضا بحاجة إلى إعادة معايرة، فهل يعقل أن يكون المنطق دائما متأرجحا على هذا النحو؟ كلّ ينظر إليه بزاويته التي يتسع مداها حتى يكاد يتلاشى، فهو أيضا بحاجة ماسة وملحة إلى إعادة معايرة ونظر.

فهذه الأسطر ليست دعوة إلى التفكير بمنطق فقط، بل هي محاولة للاقتراب من ذلك المنطق، كونه التفكير السليم مع المحاججة، نحو حدود المطلق والثبات بحيث لا يكون دوما متأرجحا حسب منظور الرائي وزاويته الخاصة.

فكيف لنا أن ننتشل المنطق من موجة التذبذب ما بين الصواب والخطأ، ونزيل عنه تلك الأوجه التي يحتملها جميعها، والتي يقع عليهما نظرة الفاحص، أو كيف علينا تحديد مكان المنطق على وجه التحديد، هل هي في النظرة الشمولية في الأمر، أم منطق الشخص ذاته بموقفه الخاص وفق هويته الحقة الأصيلة؟، فما أن تحتار في أمر ما، حتى تمتد الأيدي وتنادي الألسن، وتبقى أنت شاخصا بعين الفكرة تائها ما بين الآراء، وما بين موقفك الذاتي للحدث والفكرة، والذي قد لا يتساوى ولا يتطابق إطلاقا في أحيان كثيرة مع تلك الزوايا التي يقفون عليها، ومع ازدياد محاولاتهم لموازنة الموقف ومساعدتهم، تسأل نفسك حينها: أيهما الأقرب إلى المنطق؟ ليجول في ذهنك وبتصورات عديدة ترتحل لمعاينة كل الآراء، لتجد أنك ابتعدت كل البعد عن موقعك الحالي، الذي هو يعبر عن هويتك الحقة، لتعرف حينها بأنك كنت في جولة رائعة، ستأخذ منها ما شئت لتعود إلى موطنك الأم وهويتك الحقيقية.

قد يؤدي التجوال بين الآراء العديدة إلى تعزيز منطقك الداخلي، وليس قبولك للآراء مترامية الأطراف، كثرة الآراء من حولك ستعزز موقفك من القضية، ولمن الجيد معرفة ذلك خاصة لأولئك من يظنون بأن الآراء الأخرى والأخذ بها تسلبهم هويتهم، فلو أطلقنا طائر المنطق، فعلى أي شجرة سيحط يا ترى؟ فذلك الطائر مهما بدا حرا طليقا أيضا بحاجة إلى غصن ثابت يقف عليه، ولكم يحزنني ويشعرني بالأسى أن يحط طائر المنطق على غصن شجرة مهتز منكسر.

لأقول أخيرا وكمحاولة للاقتراب من ذلك المنطق، بأنه اقرب ما يكون إلى الذكاء العاطفي من كونه ذكاءً معرفيًا محضا، إلا أن الذكاء العاطفي غير مقصور على التفاعلات الاجتماعية بقدر الوعي الذاتي الداخلي، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال: "إن للقلب منطقًا لا يعلم المنطق عنه شيئا"، فالأمر أشبه بأن تسقط حجرا لتسمع صداه فتعرف عمق البئر، كذلك الشعور أن تعرف جيدا إحساس انطباعك الذاتي الداخلي تجاه الأشياء والأحداث والعواطف، ولتكون عارفًا لطريق العودة أيضا متسلحًا بقوة داخلية.

فتكون بذلك اقتربت من المنطق حتى كدت تلامسه، إن لم يكن بيديك فبشغاف روحك، فتكون قادرا على ترجيح المنطق ذاته من بعد رحلة ارتحال ما بين منطقهم ومنطقك، لتعود غانما قبل أن يضيع المنطق مع تعدد الآراء واتساع رقعتها، فيتشابه المنطق بذلك مع تلك العدسة المكبرة، التي تمتص الأشعة من حولها لتقوم بتركيزها لتحويلها إلى قوة حقيقية نافعة، ليستقر منطقك داخل قلبك قبل أن يطرق تلافيف عقلك، فتكون بذلك قادرًا على معايرة المنطق بعد الاتكاء على كل الزوايا لتستقر على زاويتك الخاصة، ليعود المنطق إلى مركزيته، ليكون للمنطق مكان دوما لدى المبدعين العباقرة، فيصفون بمنطقهم الخاص القوي القادر على التأثير والتغيير.

لقد أخبرونا سابقا عن تلك الأفكار التي تطير من عقولنا وعلينا اصطيادها، لكن لم يخبرنا أحدهم عن تلك الأفكار الغارقة في عمق قلوبنا، والتي لامست شغاف قلوبنا، فتلك الأفكار هي من تقربنا من المنطق، فهو أقرب إلى الاستبصار الداخلي منه التفكير المجرد، لتحول مسار المنطق من كونه التفكير العلمي إلى الاستبصار الداخلي، ولا جديد في أن تعرف بأن التفكير المنطقي هو التفكير العلمي السليم، لكن ما قد يغفل عنه الكثيرون بأن المنطق أيضا بحاجة إلى ميزان وإعادة معايرة هو أيضا، لذا دعونا نقترب منه إلى الحد الذي يجعلنا نلامسه بأفكارنا.