فكرة واحدة وثلاث غمزات

15 يناير 2023
15 يناير 2023

يأخذنا الظن أحيانا إلى الطريق الذي نرى فيه أن التدرّج يوصلنا إلى آفاق أكثر اتساعا وأكبر حجما؛ في حين أن التدرج على الغالب يوصلنا إلى الرمز الأصغر والعلامة الدالّة، فإذا لم يتّسع المدى للمعنى فإنه يحفظ برمز ينتظر تجسيد المعنى.

نتدرّج في المعرفة حتى أصبح لذلك التدرّج علم مستقل، فأصبح للطفولة علمها وآدابها، وعالمها المصمم خصّيصا لها، وأصبح لكل علم مبادئ وأسس ومراحل ومستويات لا يمكن تجاوزها البتّة، وبات كل شيء خاضع لعلم التصنيف، فما هو جائز للكبار لا يصحّ لعالم اليافعين، وغير قابل للتطبيق لعالم الأطفال بلا شك، ليكون بذلك لكل شيء مرحلته وخصائصه، محكوم باحتياجات المرحلة ومتطلّباتها وخصائصها.

العدسة هنا لا تركز على المستويات المعرفية، بل على المعاني العميقة لكيفية التعامل مع المعرفة؛ كرمز يمكن إعادة تحجيمه، فكل غايتنا المعاني الأعمق، فهي كالجوهرة التي لا بدّ أن تصان، وكما نخلّد الجوهرة بالحفظ، فإن مبلغ الحكمة يُحفظ بالرمز، فالرمز حفظٌ للمعنى من الضياع إلى أن نهديها لمستحقها، لكي لا تتعرّض للاستخفاف، فكما أن لكل خزنة رمزها لمالكها، ولا يُعطى لغيره لحفظ الأملاك والأشياء الثمينة؛ فإن مالك المعرفة ومستحقّها هو الأجدر بذلك المعنى، ومفتاح كل ذلك هو الترميز والإشارة الرمزية للمعنى.

وبالعودة إلى الأدبيات القديمة من أدب الطفل، نجد نماذج وحكايات ظننّاها بأكملها موجهة للطفل، في حين أن الرمز كان مخبوءا فيها للكبار، وكمثال على ذلك حكاية أليس في بلاد العجائب، فإن أليس عندما اشتكت لوالدها من الأشباح التي تراها في أحلامها، طمأنها بصيغة تشابه طفولتها وقال لها: إن كل ما تراه ويحدث لها في الحلم غير قادر على إيذائها، وفي ذلك الوقت لم نهتم إلا بالسرد القصصي، والجانب الفنّي من الأمر، وظلّت الحكمة محفوظة برمز التلميح والمغزى.

تلك الرموز المخبوءة خلف الأشعار والحكايات، والحكم والأقوال والأحجيات وحتى النوادر والطرائف يكبر معها الطفل، فيكبر معه المعنى ويسير بالتوازي، فليست مهمّة الرمز محو المعنى، بل مواراته بحيث يصبح متخيّلا قابلا للتأويل.

ففي حين يُرى أن الترميز يبعدك عن المعنى؛ يجده آخرون يحفظ المعنى من العبث والتضاد، فأي فكرة لم يتم ترميزها فهي عرضة للزوال، فالأفكار التي تأتي قبل أوانها وفي غير موعدها القدري، فيصعب ويستحيل الإيمان بها، فإنها تحارب وتفقد فاعليّتها إذا ما اقترنت برمز متبوع بثلاث غمزات، كتلميح قادر على خلق المعنى في نفسك، فتبقى نسخة من المعنى وجوهره محفوظة على الدوام.

وكما جاءت الحِكَم والأقوال المأثورة تحمل من المعاني أوجه عديدة، كلّ يرى ذلك بحسب مستوى فهمه كمقولة " تُعرف الشجرة بثمارها"، فيفهمها الصغير بما يبديه من ظاهر معناها، فلا يتجاوز فهمه تلك الشجرة، وما تطرحها من ثمار فتسمّى حسب ثمارها، ويستحيل عليه أن يفهم مدلولات المعنى الأعمق والأبعد، وتلك المدلولات النفسية والقدرية والوجودية، فنجد أنه لا يأخذ المعنى الوجودي من ذلك المأثور من القول؛ إلا من تلمّست يداه ثوب المعنى، وكما لا يرى المتذوّق من الفن إلا ما يقارب مستوى أفكاره، فيقرأ الفنّ بناء عليها.

فالمعنى يتبدّى لذلك الانعكاس الذي يشابهه، والرمز اختصار للمعنى، وعلامة دالة عليه لا يتجاوزها إلا الجاهل بها، ولمن المدهش والإعجاز أن يتكشّف لك العمق من رمز كان متاحا لك على الدوام، بحيث يتاح للمعنى أن يبزُغ من خلف الرمز، وإن كان ذلك الرمز على نحو ارتجالي، لكنه كتلميح بسيط كفيل بحفظ المعنى وجوهره، في الحالة التي لا يتسع فيها المدى للمعنى، فيظهر الرمز تجسيدا لذلك المعنى لحين بزوغ فجر المعنى بأوانه، وما الحكيم إن لم يتقن فن التلميح وإعادة تحجيم المعاني بالترميز، فالرمز كطرف خيط مربوط في نهايته المعنى، وينعقد بلا انفلات، فيتّضح لنا أننا نحن إن خبّأنا المعنى بإطار رمزي، فيظلّ المعنى محفوظا، عن طريق إعادة صياغة المعنى عن طريق الرمز، فالرمز يحمل بصمة المعنى ومدلولاته، بل أنه يتعدّى ذلك ليكون للمعنى آفاق تتسع، ومعطيات أكثر وفرة ورحابة، فيؤخذ الرمز ليخفي أكثر مما يُبدي، ويُظهر أكثر مما يُخفي.

والحياة بحد ذاتها لن تأخذ منها إلا ما يناسب حدود معرفتك، فتظلان كثنائي يسير دوما بالتوازي، فلا يتكشّف لك إلا ما أنت مستعّد لخوضه والدخول في غماره، فإن تتقن فن الرمز ببراعة يعني أن تؤمن بلحظات الصمت أكثر من تلك التي أطلقت فيها لسانك، كتعبير بأن في الحديث قد أفصحْت عمّا يُقال وبما هو ملائم، أما الصمت فهو مغارة كنز، كتلك التي سمعت عنها في حكاية مغامرة علي بابا.

الشيء يجذب شبيهه ليس في الأحداث فقط؛ بل حتى في المعاني، فتجاربك هي من تكشف لك المعاني، وإن في ذلك لحكمة بالغة ألا يتكشّف لك إلا ما أنت مستعد له، فلذلك الترميز وإضافة طابع التلميح لتلك المعاني العميقة لهي خطوة مهمة على الكاتب والمربّي أن يتقنها، فيعرف جيّدا إيقاع أن تقول كل فكرة وفي مقابلها ثلاث غمزات كتعبير عن التميّز، كما أن الأشياء عندما تقدّم في طبق من ذهب فإنها تفقد لذّة العناء، وقد تصل في غير وقتها كما أشرت سابقا، فيأتي الرمز ليس لإضافة فنّية للعمل الأدبي والفكري والخطابات والحوارات بأشكالها؛ بل لحفظ المعنى من التلف.

إضافة الرمز إلى المعرفة يعطيها طابع فنّي، وأن تتقن فن الترميز يعني أنك تمتلك نسختك الخاصة من المعرفة، فالمعرفة يمكن اعتبارها كمادة خاملة كامنة، وذات تردّدات صامته، إلا أن بداية استخدامها وإضافة الرمز فيها هو ما يحوّلها إلى فن.

إساءة فهمك للمعنى لا يُفقده هيبته فحسب، بل أنه قد يصل إلى الحدّ الذي يحارب فيه لأنه لم يتم الإيمان به، وقد يصل إلى أن يكون كعدو يهدد خطر قوامك الفكري المنسجم، فيستحق الردع منذ أول الطريق، فالرمز هو رشّة الحكمة التي تُضاف للمعنى، والمربّي الحقيقي لا يُفقدك متعة التجربة الذاتية لمراحلك العمرية وخبراتك، بل هو يساعدك على أن تحيا حياتك بمراحلها.

أن تمتلك الرمز فهذا مفتاح الحكمة وجوهرها، وأن لا تأبه بالمادة وبإطارها المجسّم أكثر عن رمزيّتها، فإنك بذلك امتلكت جوهر المادة وما يفوقها، وأن تتقن فن الترميز في الحديث أو الكتابة أو التعبير؛ فأنت بذلك تملك زمام المعرفة، فتعرف ما تُبدي منها وما هو لازمٌ إخفاؤه، فمصمم القوارب وصانعها يعرف جيّدا تلك المعادلة، ما بين الطفو وما بين الجسد المغمور من السفينة، لتسير بسلام وتكمل رحلتها بأمان بلا غرق محتّم، كشأن المعرفة تماما؛ تمتلكها كحكيم وتكتمها عن طلابك، إلا حين يكونون على أتمّ الاستعداد لتلقّيها، لتكون المعرفة حقا معبّرة عن كونها نورا للقلب والعقل، وإلا فقد تكون ظلاما دامسا إذا ما قيلت في غير وقتها.

ويقاس كل ما سبق سرده، من امتداد لمقدمة استطالت باتجاه التبرير؛ على الرحلة الإبداعية للمفكّرين وغيرهم، فإن جُلّ ما يحتاجونه هو تلك المساحة التي تتيح لهم التجريب والاختيار، واكتساب الخبرات كحق مشروع جاء بعد عناء البحث، وكل ذلك لا يكون إلا باتكاء على المرشد والمربّي، والحاضن التربوي للموهبة الإبداعية ، فيصدق القول وينطبق عليهم حقا " فكرة واحدة مقابل ثلاث غمزات "، كشعار يودون رفعه تعبيرا عن مطالباتهم بممارسة حرياتهم الفكرية، فهم بحاجة إلى أن تمتد لهم يد العون بمشورة أو فكرة، يتبعها سيل من الرمزيات والتلميح، لتظل التجربة هي الفاصل الوحيد الحق العادل لأمر الفكرة، فتظل التجربة هي المقياس الأصدق لرجاحة الفكرة، ومناسبتها مع التنامي المعرفي، فيصعب اختبار كل شيء مقدم من خبرات منذ البداية، بل أن التعلم مع امتلاك الرمز يكون بارتداد رجعي نحو الماضي، وإلى بدايات الصفر الأولى، ولذلك على المربّي التوجيه إلى نقطة الانطلاق بفكرة تختصر ما سبق، يتبعها غمزة، غمزة، غمزة.