«غياب الوطن هو لعنة دائما»
يدفعنا عجزنا تجاه المجزرة والإبادة الممنهجة في فلسطين وغزة تحديدا إلى اللجوء للكلمات لكي ترفع معنوياتنا المتهالكة أو تعيننا على مواصلة العيش في واقع يضيق بالعاجز عن دفع الضرر عن المظلوم، نحن الذين لا نمتلك إلا أرواحنا، ولم نُقدم على الاحتجاج القاتل مثلما فعل الطيار الأمريكي (آرون بوشنل) الذي أحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية احتجاجا على إبادتها للفلسطينيين في غزة يوم 24 فبراير الماضي. ففي غزة قُبِرت الإنسانية، وما تبقى منها ينزف؛ حيث بلغ عدد الشهداء حتى يوم أمس (35034) خمسة وثلاثين ألفا وأربعة وثلاثين شهيدا، وعدد الجرحى حوالي (78755) ثمانية وسبعين ألفا وسبعمائة وخمسة وخمسين جريحا، ناهيك عن التدمير الكامل للأحياء السكنية في قطاع غزة، فهل تستحق الأوطان كل هذه التضحيات؟ وهل توجد قرابين أخرى غير الدماء يمكن أن تدفع في سبيل الحرية؟
قبل الإجابة دارت في ذهني مشاهد حرب التحرير الجزائرية المعروضة في متحف المجاهد الواقع أسفل مقام الشهيد في الجزائر العاصمة، إذ زرت المتحف في صيف 2007، حيث تُعرض صور لآلاف الشهداء التي عُثر عليها بعد الاستقلال، وصور الضحايا الذين أُحرقوا بقنابل (النابالم)، كما يَعرض المتحف بندقية المجاهد علي عمّار (1930-1957) المعروف بعلي لابوانت الذي تحصن في بيت حي القصبة في الجزائر العاصمة مع الشهيدة حسيبة بن بوعلي (1938-1957)، والشهيد محمود بوحميدي (1939-1957) والطفل الشهيد عمر الصغير (1944-1957)، الذين نسف الاحتلال الفرنسي بيتهم سنة 1957، وجرى تمثيل الحادثة في فيلم «معركة الجزائر» في عام 1966 من إخراج المخرج الإيطالي جيلو بونتكيورفو (1919-2006)».
كتب الكاتب الأمريكي الألماني جيوفري هارتمان (1929-2016) كتابا بعنوان سؤال الثقافة المصيرية، «إذ يرفض أن يضفي طابعا مثاليا على فكرة الشتات (الدياسبورا)، فهو يرى أن غياب الوطن هو لعنة دائما»، هذا ما أورده الكاتب اليساري البريطاني تيري إيغلتون (81 عاما) في كتابه «فكرة الثقافة» ترجمة ثائر ديب، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
نعم تستحق الأوطان كل التضحيات مهما كانت مؤلمة وقاسية، فلم تنل البلدان استقلالها ولا عرفت الشعوب كرامتها إلا بدفع الغالي والنفيس في سبيل الحرية والعيش في أوطان تتعدى مكانتها الجغرافية إلى مكانتها المعنوية؛ فالوطن ليس رقعة جغرافية، وإنما وجود وحضور. قد يغادر الإنسان موطنه ولكن وطنه لا يغادره، يظل الوطن ساكنا في ذات المرء، ومهما حاول تناسيه أو التنكر له، إلا أنه لا يستطيع التخلص من فكرة الوطن.
وفلسطين آخر بلد محتل في الوقت الحالي، فجميع الأوطان قد نالت استغلالها بفضل الأرواح التي أزهقت والدماء التي سالت، ولنا في الثورة الجزائرية خير دليل، إذ خاض الجزائريون حروبا متعددة لنيل الاستقلال امتدت لأربعة أجيال متواصلة، وفي النهاية نالت الجزائر حريتها، وكذلك فعلت شعوب أخرى في العالم.
إن المتابع للأدب الفلسطيني يعثر على أدبيات المقاومة التي لا تنتهي باتفاقية منقوصة السيادة، أو بالحصول على ساحة وعلم واسم وهمي لدولة غير معترف بها في القوانين الدولية، وإن جرت مؤخرا محاولات للاعتراف بالدولة الفلسطينية في قانون الأمم المتحدة، فمن يقرأ روايات الكاتب والشهيد الفلسطيني غسان كنفاني (1936-1972) يتعرف على معنى الوطن والحنين له، ففي رواية «عائد إلى حيفا» التي صدرت في المرة الأولى عام 1969م كتب غسان على لسان البطل سعيد: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله
وسألته زوجته متوترة بعض الشيء: ماذا حدث لك يا سعيد؟
لا شيء. لا شيء أبدا، كنت أتساءل فقط، أفتش عن فلسطين الحقيقية».
أما في الأشعار والفنون الشعبية، فقد حفلت الكتب بالأشعار والقصائد والأراجيز التي تحث على المقاومة والتمسك بفلسطين حرة، ومنها أغنية «من مزرعتي ومن تل العاصور العال» التي يرددها الأطفال الفلسطينيون هذه الأيام في غزة ورفح:
«من مزرعتي ومن تل العاصور العال
ضحك البيدر للغلة... وغنى موال
جدي وصاني وقـــلي ... إن ضاعت البلاد
لا تبقى عالمصلي ... وتنسى الجلاد
لا تستسلم وتخلي ... غيرك صياد
تنسى زيتون التله ... وتوقف تمثال»
لن تبقى فلسطين محتلة إلى أبد الآبدين، فالشعب الفلسطيني الذي قدم آلاف الشهداء ولا يزال يضحي إلى الآن، لن يتوقف عن الشهادة حتى ينال الفلسطيني حقه وتتحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وعلى العالم الغربي المنافق أن يتخلى عن دعم الصهاينة وعقدة الذنب في طرد اليهود من أراضيهم في أوروبا.