غزَّة.. المجتمعُ يقاوِم
منذ بداية العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، في السابع من أكتوبر الماضي، والمجتمع الفلسطيني في القطاع يضرب لمن يتفرجون عليه طيلة ثلاثة أشهر أبلغَ الأمثلة على المقاومة والنضال المجتمعي المتلاحم والفريد، متمسكًا بحقه الأول: الحياة، الحياة على الأرض التي نبتَ من جرح ترابها، على الأرض التي بات يعلم يقينا أنه لا تاريخ له ولا جغرافيا خارج تخومها. فعلى الرغم من حجم الكارثة الإنسانية والتدمير المنهجي المتواصل لمقومات الحياة، وعلى الرغم مما تخلفه عملية الإبادة والتدمير المستمرة من صدوع وتمزقات في النسيج الاجتماعي للسكان، شمال القطاع وجنوبه على حد سواء؛ لم يزل الإنسان الفلسطيني المحاصر والأعزل هناك هو معقل الصمود ومرتكز هذه المقاومة العنيدة، التي تدل بحد ذاتها على قوة الحق والحقيقة مقابل تهافت الأكذوبة والخرافة الإسرائيلية، ولم يزل نفَس المقاومة المتصاعد من تحت الأنقاض محرضًا كافيًا للبربرية الصهيونية على المزيد من البطش.
لم تبدأ حكاية المجتمع الفلسطيني المقاوم في غزة منذ يوم السابع من أكتوبر فقط، كما يحاول كتَبَةُ التاريخ منزوعِ السياق أن يدونوا. ولم تكن مجرد تراكم لخبرة السكان في التكيف والبحث عن الخيارات البديلة بكافة السُّبل خلال زمن الحصار المستمر منذ 17 عاما، بما تخلل تلك الأعوام من سبع جولات عنيفة مع آلة الحرب الإسرائيلية، بل هي في الواقع امتداد متعاقب لحكاية شعب من اللاجئين وجدوا أنفسهم في هذا الخندق المشترك، بمعزلٍ جغرافي واجتماعي مصمم باحترافية استعمارية لفصل سكان القطاع عن المكوِنين الأساسيين الآخرين من المكونات الديموغرافية الفلسطينية الباقية على أرض فلسطين، سكان الضفة الغربية، أولًا، والمجتمع الفلسطيني العصي على الذوبان في الداخل، ثانيًا. حيث يقوم مشروع الاستعمار الصهيوني على تكريس هذا التوزيع الثلاثي للشعب الفلسطيني من أجل صناعة 3 مجتمعات منفصلة الأقاليم، سعيا لفصلها ثقافيًّا وهوياتيًّا عن بعضها البعض على المدى الطويل، وفقًا لسياسة عنصرية تتدرج من التذويب، إلى التهجير، إلى الإبادة.
وبالعودة إلى غزة، فإن أحدث البيانات الإحصائية تصف القطاع المحاصر كواحد من بين المناطق الأعلى كثافة سكانية في العالم؛ إذ يتوزع حوالي 2.4 مليون نسمة على مساحة تبلغ 360 كيلومترًا مربعًا، في غياب مهول ومخيف لأي تناسب منطقي بين عدد السكان ومساحة الأرض! إننا نتحدث عن مجتمع مُحتل ومحاصر في الوقت نفسه، غالبيته من اللاجئين، مجتمع لم تتوفر له -على مدى تاريخه المعاصر- أي من الظروف السياسية والاقتصادية للنمو نموًّا طبيعيًّا كأي مجتمع آخر. وإضافة إلى تأسسه الديموغرافي والاجتماعي بناءً على حالة اللجوء، يتعرّض هذا المجتمع لمحاولات متلاحقة من قبل المستعمر الصهيوني لنسف لبناته الاجتماعية التي أخذت تتشكل تحت شروط الحكم العسكري سابقا ثم تحت الحصار.
الأهم من ذلك هو كيف نقرأ هذا الوصف الإحصائي بالنظر إلى تاريخ المكان وسجلاته بعد عام 1967؟ وكيف نعالج هذه الحقيقة الديموغرافية لفهم طبيعة هذا المجتمع وشبكة علاقاته المعقدة التي كشفت عن مستوى عالٍ من الصمود والتماسك والمناعة المجتمعية لحظة الكارثة التي تميزت هذه المرة بشموليتها العمياء، الأمر الذي عزز لدى المجتمع عقيدة المعركة الواحدة والخندق المشترك، انطلاقا من الاعتقاد العام بأن الجميع مستهدف في هذه الحرب، دون تحييد المدني عن المسلَّح، وبلا تمايز مناطقي أو طبقي، وبلا أي ضمانات قد تُستثنى بها شريحة المهنيين الذي يعملون في قطاعات عادةً ما تكون مُحيَّدة أثناء العمليات العسكرية في الحروب، كالصحفيين والأطباء وطواقم الإسعاف الذين وجدوا أنفسهم مع عائلاتهم هدفًا نوعيًّا مقصودًا بطريقة انتقائية من قبل سلاح العدو خلال هذه الحرب. لذا، وعن طريق مراقبة الحرب من هذه الزاوية الاجتماعية، يمكننا أن نقبض على تفسير واضح لطبيعة علاقة المقاومة المجتمعية في غزة بالمقاومة المسلحة طيلة الأشهر الماضية من الحرب، تلك العلاقة المتداخلة والمتناوبة، بصورة تبدو شديدة التعقيد والتناغم في آن معًا، والتي كان من أبرز انتصاراتها إحباط محاولات الداعية الحربية الإسرائيلية والإعلام الغربي الرديف لطرق المفاصل والروابط المتينة بين الفصائل الفلسطينية المسلحة والمجتمع نفسه الذي أنجب مقاتلي تلك الفصائل في حاضنته الشعبية، وذلك قبل أن يقدمهم كتعبير مسلَّح عنه في مواجهة الاحتلال.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني