عيد البشر والشجر
العيد فرحة لا تعادلها فرحة، والمطر كذلك، وحين يجتمع العيد والمطر، فالفرحة تكون مضاعفة، فعلى غير موعد، تزامن نزول الأمطار على مسقط مع حلول عيد الأضحى المبارك، فصار العيد عيدين، فلم تنزل الأمطار على الأرض، فحسب، بل على القلوب، وهنا أستحضر نصا للشاعر الفرنسي بول فيرلين:
«إنها تمطر في قلبي
مثلما ينهمر المطر على المدينة..
يا لصوت المطر العذب
على الأرض وفوق السقوف
لأجل القلب المثقل بالكدر
انهمري يا أغنية المطر..»
وهكذا انهمرت أغنية المطر التي طربنا لها مثلما طربت أسماعنا، لأغاني العيد، وأبرزها تلك التي غنّتها أم كلثوم عام 1937 في الإذاعة، «يا ليلة العيد» التي صارت من مستلزمات العيد، رغم أنّها تغنّى في الغالب، ليلة العيد فقط، وتحديدًا بعد إعلان ثبوت رؤية الهلال، إذا كان العيد عيد فطر، أو مساء يوم عرفة، ابتهاجًا بانتهاء مراسم الحج، في عيد الأضحى، وهي الأغنية التي التقطت (أمّ كلثوم) جملتها الأولى من لسان أحد الباعة المتجولين، فصاغ كلماتها أحمد رامي، ولحّنها زكريّا أحمد، وقد ورد في المقطع الأول:
«يا ليلة العيد أنستينا
وجدّدت الأمل فينا يا ليلة العيد
هلالك هل لعنينا فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد حيجينا على قدومك يا ليلة العيد»
وفيها مقطع تقول به: «يا نيلنا ميّتك سكّر وزرعك في الغيطان نور» ويقال إنها ارتجلته بعد حضور الملك فاروق في حفل لها في القاهرة عام 1944، وحين غنتها في بغداد عام 1946 نسبت الماء لدجلة، وليس النيل، بما يتناسب مع المكان، فجاء هكذا: «يا دجلة ميتك عنبر» فمنحها الملك فيصل وسام الرافدين المدني، والذي يهمنا في هذا البيت امتزاج الماء بفرحة العيد، في مهرجان عشناه، حين قدم إلينا العيد، حاملا معه هداياه، وكان أجملها المطر الذي جاء الخير معه، وكان الأكثر سعادة الأرض، والأطفال، الذين يفرحون بالعيد، والمطر معًا، في طفولتنا، كانت الغيوم إذا تجمّعت في الأفق، يفرح معلّمنا، كنّا في المرحلة الابتدائية، ويقول: سينزل المطر، وستمكثون في البيوت، لذا كان يكثّف من الواجبات، التي كنا نضيق بها، لكنها لم تقلّل من فرحتنا بنزول المطر، وإذا كنا نعرف سبب فرحنا بالعيد، فالكثيرون يتساءلون: لماذا تسعد النفس بنزول المطر؟، وهنا تتعدّد الإجابات، لكنّها تصبّ بمجرى واحد، فالمطر ينعش الروح، ويبث الشعور بالطمأنينة، ويتيح فرصة للتأمل، ومراجعة الذات، والاستمتاع بمنظر نزوله، وغسله الأشجار، والأرض، ويسهم في تنقية الأجواء من الأتربة، والغبار، وما يعلق في النفس من هموم، وفي كلّ الأحوال، المطر بشارة خير (فَإذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، ومما جاء في حديث مسلم عن أنس (رضي الله عنه) قال: أصابنا ونحن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مطر، فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: «لأنه حديث عهد بربه تعالى»، وفرحة الفلاحين الكبيرة بنزول المطر، تختلف عن فرحة سواهم من سكان المدن الذين رغم سعادتهم بنزوله إلا أنهم يعيشون بحالة حذر شديد، بسبب نزول الوديان وما ينجم عنها من مخاطر وكذلك الزحمة وعرقلة السير في الطرقات، ولكن تطوير البنية الأساسية والاهتمام بتنظيم الشوارع، وتصريف المياه، ساعد على تجاوزها، وقد كانت المعاناة أشدّ في سنوات بعيدة خلت، وقد عشنا جانبًا من تلك المعاناة في الستينيات، والسبعينيات، أمّا اليوم فالوضع مختلف، خصوصًا بعد تحسّن الظروف الاقتصادية في المنطقة، في السبعينيات، والطفرة النفطيّة، فالمطر رحمة للعباد يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) فنزول الأمطار، رحمة تعود بالنفع والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) حين ينزل المطر يدعو «اللهم صيّبًا نافعًا».
ونزول الأمطار، مع حلول العيد، اختفت الزحمة في الشوارع، ومع تلطيف الأجواء، وانخفاض درجات الحرارة، استمتع الجميع بعيد سعيد، وأيام مباركة، نشرت السعود، والأفراح التي عمّت عموم مناطق سلطنة عمان، يقول أحمد شوقي:
العيد هلّل في ذُراك وكبّرا
وسعى إليك يزف تهنئة الورى
هذه التهاني تمتزج بالطفولة والجمال، فتزول الأحزان، لدى الشاعرة جمانة الطراونة:
التهاني كلّها منك إليك
وأنا طفل الهوى بين يديك
اضحك الآن فروحي لم تعد
تفهم الحزن الذي في مقلتيك
ذلك هو وجه العيد بعد أن غسلت أمطار الخير والبركة البطاح، والأرواح ، فكان عيدًا للبشر والشجر.