عندما يكون الفنان مثقّفًا كبيرًا
يُجمع كل من عرف الفنان المصري الكبير صلاح السعدني (الذي رحل عن عالمنا قبل أسبوع عن ثمانين عامًا ونيّف) أنه كان من أكثر الفنانين العرب ثقافةً واطلاعًا وقراءة، وانعكس ذلك على حواراته الفنية القليلة التي ينبهر المرء بما يسمعه خلالها، من رؤية واضحة في الحياة، ووعي سياسي عالٍ، وحسّ فنّي متقد. ولذا فقد كان الممثل المفضّل لدى عدد غير قليل من المخرجين في أدوار "المثقفين" (إن جاز التعبير)، من هؤلاء مثلًا المخرج إبراهيم الشقنقيري الذي أسند إليه دور المثقف اليساري في الفيلم التلفزيوني "فوزية البرجوازية"، وأسماء البكري التي اختارته في دور المثقف في فيلمين من إخراجها؛ الأول "شحاتين ونبلاء" (إنتاج 1991) المقتبس من رواية الأديب المصري الفرنسي ألبير قصيري وجسد فيه دور أستاذ الفلسفة الذي يدفعه وعيه الحادّ بمجتمعه وانقلاب موازين النظر إلى الأمور، إلى ترك وظيفته واعتزال العالم مفضّلًا العمل في أحد بيوت المتعة، والثاني "كونشرتو في درب سعادة" (1998) في دور الموظف في دار الأوبرا المنجذب لسماع الموسيقى الكلاسيكية. وأفتح هنا قوسًا لأقول إن أول دور جذبني لصلاح السعدني كان أيضًا دور مثقف، وتحديدًا كاتب مسرحي شاب، في المسلسل الدرامي الجميل "سفر الأحلام" (1986) الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه سمير سيف، ولا زلت حتى اليوم لا أنسى مشهد تمزيق العم أنيس (محمود مرسي) مسرحية الكاتب الشاب ورمي قصاصاتها في الشارع من الطابق الثالث أو الرابع، بحجة أن نهايتها مأساوية وليست سعيدة أو متفائلة! وأظنني سأحب العناوين الطويلة عندما أصبح كاتبًا بعد سنين من هذا المسلسل بسبب العنوان العجيب لهذه المسرحية: "الخمس دقائق الأخيرة قبل وصول البوليس".
على أن الممثل المثقف قادر على الأداء المبهِر في كل الأدوار وليس فقط أدوار "المثقفين"، ومنها طبعًا أدوار الفلاحين والناس البسطاء. وما أكثر هذه النوعية من الأدوار التي أداها السعدني باقتدار، بدءًا من دوره المبكر في مسلسل "الضحية" سنة 1964 الذي تقمص فيه دور رجل أخرس طوال خمس عشرة حلقة، وليس انتهاء بدور الفلاح الفقير في فيلم "الأرض" ليوسف شاهين (1970)، وهو أحد أهم الأفلام السينمائية العربية.
لكن أكثر شخصيتين دراميتين للسعدني باقيتين في ذاكرة المشاهد العربي اليوم هما: العمدة سليمان غانم في مسلسل "ليالي الحلمية"، التي اكتسب بسببها لقب "عمدة الدراما المصرية" (على عادة المصريين في إطلاق الألقاب على الفنانين بسبب أعمالهم الفنية، كما هي حال "الزعيم" عادل إمام، و"الملك" محمد منير) وحسن النعماني في مسلسل "أرابيسك". ورغم أننا لن نجانب الصواب إن قلنا إن سبب نجاحه الكبير في تأديتهما هي الكتابة الدرامية المتقنة لأسامة أنور عكاشة الذي كان صديقًا مقرَّبًا للسعدني، إلا أنه ينبغي أن نضيف إلى ذلك اجتهاد الفنان نفسه، بالاشتغال العميق على تقمص الشخصيتين. يؤكد ذلك إجابته على سؤال الناقد طارق الشناوي: "كيف تختار أعمالك؟" حيث يقول: "أقرأ ثلاثين مسلسلًا لأختار دورًا واحدًا، ورغم ذلك كثيرًا ما أضطر لإعادة كتابة دوري بنفسي". إن إعادة كتابة الدور هنا لا تعني الاعتداء على نصّ المؤلف، بل البحث عن مفاتيح الشخصية المكتوبة، والغوص في دواخلها النفسية، وإضافة لمسات إبداعية لها؛ "إنك تحسّ وهو يلعب أمامك شخصية، أو يؤدي مشهدًا منها، أنه يكتب الشخصية في ذهنك مثلما الكاتب يكتبها" كما يصف الروائي المصري خيري شلبي أداءه التمثيلي في كتابه "حديقة المضحكين". يُروى عنه مثلًا أنه قبل أن يدخل تصوير مسلسل "أرابيسك" قضى شهرًا كاملًا في تعلّم صنعة الأرابيسك مع "حسن أرابيسك" الحقيقي. أما أداؤه في "ليالي الحلمية" فيلفتنا إلى أهميته الكاتب العراقي إبراهيم البهرزي في مقال له بعنوان "صلاح السعدني أم سليمان غانم؟" بالقول إنه "في الأعمال ذات الأجزاء المتعددة يراقب الكاتب والمخرج وجِهَةُ الإنتاج تأثير شخصيات العمل على الجمهور في جزئه الأول ليعيدوا تقييم المسار الدرامي للأحداث في الأجزاء التالية"، ويَخْلُص البهرزي بعد هذه المقدمة إلى أن أداء الفنان صلاح السعدني في كل جزء من أجزاء "الليالي" كان يُضيف لعكاشة عدة دسمة تساهم في تطور الشخصية، مؤكِّدًا أن شخصية سليمان غانم لو كان أداها ممثلٌ آخر "فربما كان سيدفع أسامة أنور عكاشة إلى أسلوب قتل الشخصية الذي يلجأ إليه مؤلفو الدراما حين تستنفد بعض الشخصيات في الأعمال المطولة قدرتها على النمو، وما كان سيوصِل هذه الشخصية إلى أرذل العمر، وتظل مع ذلك تجسِّد الخرف بأصدق تعابيره المعجزة كما أداها السعدني".
بالنظر لحجم موهبته كان يمكن لصلاح السعدني أن يكون اليوم في مكانة فنية أعلى بكثير، لولا العرقلة التي مُنِيَ بها في بداية مشواره في السبعينيات. وشخصيًّا كنتُ أظن مع كثيرين أن السبب الوحيد لهذه العرقلة هو سجن شقيقه الكاتب الساخر محمود السعدني لمواقفه السياسية، وانعكاس ذلك على فرص أخيه، وربما ساهم محمود نفسه في ترسيخ هذه الفكرة عندما تحدث عنها في كتابه "المضحكون" في الفصل الذي تحدث فيه عن ثلاثة مضحكين واعدِين وقتئذ (هم عادل إمام وصلاح السعدني وسعيد صالح). لكن الكاتب بلال فضل – وهو أحد أقرب أصدقاء صلاح السعدني – روى في إحدى حلقاته الأربع عن السعدني في برنامجه "الموهوبون في الأرض"، أن السبب الحقيقي هو نقدٌ سياسي وجهه صلاح السعدني خلال جلسة بجامعة القاهرة سنة 1972 لمناقشة فيلم "أغنية على الممر"، والذي أدى فيه واحدًا من أجمل أدواره السينمائية، إضافة إلى أنه – أي صلاح السعدني – كان والفنانة محسنة توفيق الممثلَيْن الوحيدَيْن اللذَيْن وقعا بيان المطالبة بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب ضد إسرائيل من المثقفين المصريين، ونُشِرَ في جريدة الأنوار اللبنانية في 9 يناير 1973، ويكفي أن نُلقي نظرة على قائمة الموقّعين على هذا البيان لندرك أهميته وسبب الغضب الشديد منه: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، أمل دنقل، أحمد عبدالمعطي حجازي، ألفريد فرج، لطفي الخولي. وغيرهم.
إن فنانًا مثقفًا كصلاح السعدني، وملتزمًا تجاه وطنه وفنّه وجمهوره، لا يمكن أن تكون نهايتُه خبرًا حزينًا من سطرين في الصفحة الأخيرة من صحيفة الأهرام، كما كان يتخيّل في حياته نهاية كل فنان. بل سيبقى واحدًا من الفنانين العرب القلائل الذين كتبوا بفنِّهم الجميل ومواقفهم المشرّفة صفحة جميلة في تاريخ الفنّ العربي.