عندما تكون السرقة الأدبية أخلص أشكال الإعجاب!
على كثرة ما رَمَتْ الأقدار في طريقي منتحِلين، فإن قليلًا منهم مَن يعتذر عن فعلتِه بعد كشفِها على الملأ، إذْ تفضّل الكثرة الكاثرة الصمتَ المطبق، خجلًا ربما، أو أملًا في أن يمر الأمر ويُنسى، مثل أي خطأ آخر في الحياة. ومن القلائل الذين يعتذرون لم أصادف يومًا مَنْ نَجَح في تقديم عذرٍ مقنع يبرر انتحالَه، هناك من يقول: إنه انتحَل دون أن ينتبه أنه ينتحِل، وثمة من يتذرّع برغبته في نشر العلم (فيما لو كان النصّ المنتحَل مقالًا علميًّا أو فكريًّا)، بل إن هناك مِنْ يتبجّح بأنه يُسدي للكاتب المسروق خدمة جليلة بإشهار نصّه أو كتابته المسروقة!
لعل هذه المقدمة ضرورية قبل الحديث عن الرواية الجميلة «سرقة أدبية» للكاتب المكسيكي إيكتور أغيلار كامين، الصادرة ترجمتها العربية عام 2022 عن دار «الخان» الكويتية، بترجمة عن الإسبانية للمترجم حسن بوتكي. ذلك أن هذه الرواية التي تتوغل في عوالم الانتحال والمنتحِلين تقوم على تبرير طريف للسرقة يضعه المؤلف تصديرًا لروايته: «السرقة الأدبية أخلص أشكال الإعجاب». يرى بطل الرواية أن المنتحِل يسرق «لأنه معجب؛ لأن المادة التي يسرقها تبلغ في دواخله بُعدًا فنيًّا فريدًا لا يمكنه الوصول إليه، ولا أن يتشرف به إلا بطريقتين.. باستنساخه كليًّا، وهذه نسخة همجية للمهنة، أو تغييره بما يكفي ليصعب التعرف عليه لأول وهلة، لكن مع الحفاظ على أثر الإبهار الأصلي الذي دعاه إلى انتحاله كما هو».
هذا النوع الثاني هو ما يجعل من المنتحِل مفكِّرًا وذا فلسفة خاصة، فهو ليس ذلك المنتحِل الكسول (والغبي أيضًا) الذي يسطو على النص كما هو وينسبه إلى نفسه دون أن يتأمله أو يقرأه برويّة. بطل رواية «سرقة أدبية» مختلف، فهو وإن كان محدود الموهبة ككاتب إلا أنه قارئ أدبي نهِم، وقادر على التعمق في النصوص البديعة التي تأسر القلوب والعقول، ولذا فإن إعادة تقديمها للقارئ هي نوع من التعبير عن الاحترام لهذه النصوص. لكن هذا الاحترام يستلزم ألا تُقدَّم حرفيًّا كما كتبها مؤلفوها، بل لا بد من إعادة كتابتها بحيث تبدو جديدة ومختلفة عن النصوص الأصلية، إلى الدرجة التي تُبيح لهذا «المشتغِل» على النص أن يضع اسمه عليه كمؤلِّف جديد. أليس تاريخ الكتابة الأدبية هو هذا؟ يجيب كامين عن هذا السؤال بلسان بطله: «تاريخ الأدب، في عمقه ليس سوى تاريخ سلسلة من الكتبة الذين يحاولون تقليد ما أحبوه في مؤلفين آخرين». وهذا صحيح إلى حدّ بعيد، فالنصّ النقي الذي جاء فقط بالإلهام ومن بنات أفكار مؤلفه يكاد يكون محض خرافة (إلا في استثناءات قليلة بل ونادرة)، من هنا يردد الأدباء والمفكّرون في الشرق والغرب عبارات تعترف بهذا المعنى؛ من زهير بن أبي سُلمى في القرن السادس الميلادي الذي يتذمّر: «لا أرانا نقول إلا معارا/ أو معادًا من قولنا مكرورًا»، إلى «تي إس إليوت» في القرن العشرين: «الشاعر المبتدئ يقلّد، والشاعر الناضج يسرق»!
الانتحال بهذا المعنى موهبة كبرى لا تؤتى لأيٍّ كان، ولها أسرارُ لا يعرفها إلا المنتحِل نفسه، ما يجعل من انتحاله صعب الاكتشاف، إلا إنْ تنازل وأخرج سرّه من بئره العميق ليمنحه خاصة خاصته، وهذا ما وقع فيه بطل الرواية الذي أعطى سره لزوجته فأفشتْه هي بدورها لعشيقها؛ الكاتب عظيم الموهبة الذي تتبع من خلال هذا السرّ سرقات المنتحِل الأخرى وفضحه على صفحات الجرائد. المفارقة هنا أن المنتحِلَ ضعيفَ الموهبة معجبٌ بـ«فاضحه» لأصالة موهبته، وعبقريته الأدبية، ولأنه يكتب بأسلوب لن يستطيع المنتحِل الكتابة به أبدًا، كما يقول، ولذلك اختار له اسم فولتير، أحد عباقرة الكتابة في أوروبا.
ولكن ما هو سر «مهنة» الانتحال الذي لا يستطيع أحدٌ التوصل إليه بسهولة؟ يسرد لنا السارق الأدبي أنه بينما كان ينقل مقاطع أدبية لكتَّاب يبهرونه، يتولّد داخله، من ذلك الضوء الذي تُشعُّ به نصوصهم، غرورٌ باكتشاف عيوبها وغوايةُ تغيير ما كان ينقله. «كنت أغيِّر هنا وهناك، بخجل في البداية، ثم بوقاحة فيما بعد، إلى أن أحصل في النهاية على نص يكون هو الذي يُبهرني، لكن بعد أن فككته وأعدت صياغته». لا تنقص المنتحِلَ هنا الثقافةُ ولا سعة الاطلاع، وإنما موهبة الكتابة فقط، وهذا ما يميزه عن أولئك المنتحِلين الذي يلجؤون للسرقة الأدبية لضحالتهم الفكرية وكسلهم المعرفي، إنه يعرف أهمية ما يقرأ، ولذلك اختاره دون سواه من النصوص الضعيفة ليسرقه ويبعث له بتلويحة الإعجاب، بل إنه يستطيع للسبب نفسه (ثقافته وسعة اطلاعه) اكتشاف الانتحالات في مهدها، فقد عرف خيانة زوجته له من كلمتين فقط نطقتهما وهما لا تنتميان إلى قاموسها اللغوي كما يقول.
ترصد الرواية وهي تتتبّع قصة انتحال بطل الرواية أمراض الوسط الثقافي، التي وإن كان مسرحها هنا المكسيك؛ بلد المؤلف، إلا أنها تنطبق على عالمنا العربي بامتياز، سواء ما يخص الجوائز والمحاباة في منحها لهذا الفائز أو ذاك، دون اعتبار الجدارة في الغالب الأعم، أو من ناحية تكالب المثقفين على المال والسلطة وتحولهم إلى أقلام مأجورة، كما هي حال الناقد الأدبي ماتورانا الذي تدفع له بعض دور النشر لإعلاء كتبها وإن كانت ضعيفة، وإسقاط كتب الدور المنافسة لها، وإن كانت رائعة. يُلخّص بطل الرواية حال هؤلاء المثقفين بهذه الفقرة التي يصف بها نفسه: «كثيرًا ما كانت تهمني الشهرة أكثر من الأدب، والسلطة الثقافية أكثر من الثقافة، والنساء من لحم وعظم أكثر من القرّاء المحتملين». ولعلّ عبارة المحقق سالادريجاس التي قالها للكاتب المنتحِل تصلح لأن تكون توبيخًا لكل سارق أدبي: «كنت تكلف نفسك متاعب كثيرة في الانتحال يا صديقي. ألم يكن من الأسهل أن تكتب بنفسك أشياءك الخاصة؟».