عن الحياة، الكتب.. وأشياء أخرى
"العيشُ أولى من المعرفة"، كان صديقي العزيز يردد هذه العبارة كلما أخذنا الحديث إلى مسالك الوعورة الحياتية المتسارعة، هذا التسارع المرير الذي نشعر به ونحن نفعل كل شيء تقريبا، في قيادتنا للسيارة، في طعامنا حيث نبحث عن أفضل طعام يتم طهيه بأسرع وقت ممكن، عن الطعام السريع بغض النظر عن جودته!، بل إنني أشعر بما يدفعني لكتابة هذه السطور بسرعة شديدة وكأنما أصبحنا روبوتات مأتمتة تعمل دون تفكر.
لم تخف على الأدباء والمفكرين مأساة الوقت الراهن، هذه السرعة المهولة والركض بيدين ورجلين كالوحوش الكاسرة لملاحقة السراب الذي أمامنا، والذي يشبه الجزرة التي يلاحقها الأرنب ولن يصل إليها أبدا. هذا الهاجس المتشظي كقنبلة عنقودية تفتت إلى ألف جزء، تجعلنا لا نتذوق الطعام كاملا، لا نقرأ كتابا كاملا، لا نصل إلى الوجهة لنجني متعة الوصول، بل صار الهدف هو الوصول.. الوصول فحسب.
قرأت قبل سنوات كتابا للأديب الأمريكي هنري ميلر عنوانه "الكتب في حياتي"، وأتذكر مقارنته لدى حديثه عن السينما بين السينما الأمريكية والسينما الفرنسية وتفضيله للفرنسية رغم أمريكيته، حيث أن السينما الفرنسية تظهر فيها التفاصيل الصغيرة التي تصنع ما نسميه "الحياة". ففي هذه الأخيرة، نجد مشاهد الطعام حاضرة بأبهى صورة، فتجتمع العائلة وتأكل وتلتذ بالطعام في مشهد أقرب للواقعية من التي نجدها في السينما الأمريكية حيث التعامل مع الطعام بوصفه حاجة يأخذ الجسد طاقته منها دون أدنى أهمية لماهيته المتمثلة في التذوق واللذاذة.
تحتم علينا الحياة الركض بأقدام حافية تدهس الشوك المتناثر على الطريق الوعرة للقمة العيش، وحين نصل إلى خط النهاية، نجد أيدينا ملأى بالرمال المنسابة من بين أصابعنا وقد فقدت أقدامنا غطاءها الجلدي حتى بدت العظام!. نصل إلى الحياة التي ذكرتها الأديبة الأسترالية بروني وير في كتابها "أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت"، حيث عملت هذه المؤلفة في مجال رعاية المرضى المشارفين على الموت، وحيث أنها تقضي غالب وقتها معهم، كانت الحوارات تأخذهم للحديث عن الانكسارات التي عانوا منها في حياتهم، وعن الخيبات التي تمنوا لو أنهم تفادوها ؛ وكانت الصدمة -بالنسبة إلى المؤلفة- أنه على الرغم من أنها اعتنت بأناس مختلفين من حيث الطبقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كانت هنالك خمسة أشياء اتفقوا عليها جمعتها في كتابها باعتبارها الأمور التي يندم عليها المرء حين تقارب حياته على الانتهاء وتغدو النهاية وشيكة جدا، ففي النهاية الإنسان هو الإنسان. بالنسبة إلي ؛ لا يزال هذا الكتاب ضمن الكتب التي أعتبرها كالمعلَّقات التي لا أستطيع نسيانها ونسيان التأثير التي خلّفته فيَّ وفي نظرتي للحياة والتعامل معها، وأعود إليه بين فترة وأخرى.
الإنسان، ذلك الكائن الحر الإرادة المليء بالفضول والتقصي الحارق، لا يدرك إلا في مرحلة متأخرة جدا ما كان يجدر الاهتمام به حقا. لطالما تفكرت في حياتنا، يخبرنا الكبار حين كنا في المدرسة بأنه يجب علينا الاجتهاد في دراستنا وبذل مزيد من الجهد لندرس فيما بعد التخصصات العالية أو التي نحب ؛ لكننا لا نفعل. ثم يخبروننا بأنه على المرء أن يختار طريقة حياته بدقة لأن اليوم يؤثر على الغد؛ لكننا لا نفعل. وحين نغدو في الأيام الأخيرة من هذه الرحلة التي نسميها حياة؛ لا تكون النهاية مغايرة لما عاشه أسلافنا، بل لا تكون النتائج في حقيقتها مختلفة عما فكروا به وعايشوه وجربوه في حياتهم.
الحياة سلالم غير محايدة، ترمي بنا إلى شواهقها، لكنها لا تلبث أن تدحرجنا إلى قيعانها. وليس الإنسان من إذا رمته أو دفعته تكيّف معها فحسب ؛ بل هو الذي يُبقي كينونته ويحافظ عليها كيفما كانت حاله صعودا وهبوطا. وربما تكون الكتب الإبرة التي توقظ النائم وتمنحه الصحوة المستدامة، وتضيء فيه المناطق الأعمق غورا و الأحلك عتمة.