عربة تتهادى بالذكريات: «الأموات» بين قلم جيمس جويس وكاميرا جون هيوستن «2 من 9»

21 مايو 2023
21 مايو 2023

إن تصوُّر وترتيب نصوص مجموعة «دبلنيُّون» تصنيفيَّا وكرونولوجيَّا كما ارتآه الكاتب -جيمس جويس- إنما يحاكي/ يعيد إنتاج أربع مراحل من الحياة بصورة تصاعديَّة: المرحلة الأولى هي الطفولة (وهذه تبوح بها النصوص الموسومة «الأخوات»، و«لقاء»، و«السُّوق العربي»)، والمرحلة الثانية هي البلوغ (وهذه تبوح بها النصوص المعنونة «أفِلِن»، و«بعد السباق»، و«مُغازِلان»، و«المَثْوى العام»)، والمرحلة الثالثة هي النضج (وهذه تبوح بها النصوص الموسومة «سحابة صغيرة»، و«نظائر»، و«صلصال»، و«قضية مؤلمة»)، والرابعة هي مرحلة الحياة العامة (وهذه تبوح بها النصوص التي تحمل عناوين «يوم اللبلاب في غرفة الاجتماع»، و«أُم»، و«نعمة إلهيَّة»، و«الأموات»).

وجدت بعض القصص المتضمَّنة في «دبلنيون» طريقها إلى العربيَّة بصورة متناثرة هنا وهناك لمترجمين محترفين وهواة، لكنها ترجمت في كتاب مرتين تعود أولاهما إلى عام 1961 على يد عنايات عبدالعزيز بمقدمة لمرسي سعد الدين، وقد صدرت هذه الترجمة محتوية على بعض وليس كل نصوص الكتاب الأصل ضمن «سلسلة الألف كتاب» الأولى المصريَّة بعنوان «ناس من دبلن» (5). أما الترجمة الثانية فقد أجراها أسامة منزلجي، وقد صدرت طبعتها الأولى في سوريا عام 1983.(6) غير أن ترجمة عربيَّة مستقلة لنص «الأموات» دون غيره من نصوص «دبلنيون» قد صدرت بتوقيع عبدالمنعم المحجوب ومراجعة رمزي بن رحومة بعنوان «الأموات» (7). ولغرض هذا البحث فقد رجَّحت كفَّة هذه الترجمة على ترجمة منزلجي، وجميع اقتباساتي من «الأموات» في هذا البحث تعود لتلك الترجمة.

في «دبلنيُّون» يهتم جويس على نحوٍ فائق بإنتاج رؤية سياسيَّة، ونقديَّة، وجماليَّة لمدينته دبلن وأهلها ضمن انحيازاته ومواقفه، بوصفه إيرلنديّا، إزاء التاريخ، والهويَّة، والذات، ويأتي ذلك متسقا مع انشغالات جويس وتجذرات همومه في أعماله الأخرى. والحقيقة أن جويس نفسه يعبر عن تلك الهواجس بصراحة حين يكتب في رسالة منه إلى أخيه ستانِسلوس Stanislaus: «عندما تتذكر أن دبلن كانت عاصمة لآلاف السِّنين، وأنها المدينة «الثانية» في الإمبراطوريَّة البريطانيَّة، وأنها تقريبا بحجم مدينة البندقيَّة (فينيسيا) الإيطاليَّة ثلاث مرات، فإنه يبدو غريبا أنه ما مِن فنَّان قد قدَّمها للعالم» (8).

غير أن «تقديم دبلن إلى العالم» لا يعني، بالنسبة لجويس، تقديم «مجموعة من الانطباعات السياحية، بل محاولة لتمثيل أوجه معيَّنة من حياة واحدة من العواصم الأوروبيَّة»، كما كتب إلى وِليَم هاينمَن William Heineman (9). وفي تقديمه مدينته عمل جويس بدقَّة وشغف على تصوير تفاصيل المكان، والزَّمان، والروح. وحالة الشَّلل الغامر التي تصورها لنا أعماله ليست سوى انعكاس لما يجثم على السِّياسات، والثَّقافة، والتَّقاليد، وتبعيَّات الدِّيانة، وحاضر الشَّعب ومستقبله، وفق ما يراه الكاتب.

لقد حاججتُ دوما أن «تلخيص الحبكة» إجراء لا يفتقر للمخاطرة، بل قد تعوزه النَّزاهة، خاصة حين يتعلق الأمر بعمل شائك ومعقَّد مثل «الأموات»؛ ذلك أن المرء في مسعاه لتقديم «لقطة عامة» لمشهد هائل فإنه ينتهي، بصورة واعية أو غير ذلك، إلى إغفال عناصر من العمل قد تكون حاسمة وجوهرية بالنسبة لـ«ملخَّص» آخر عن نفس الحبكة. والدافع إلى هذا الحذف قد يكون، في بعض الحالات، محاججات تُوُصِّلَ إليها سلفا بطريقة جاهزة ينصاع لها «الملخِّص الموضوعي للحبكة»؛ وبالتالي يصبح دوره هنا إقامة الدليل بصورة مسبقة (a priori) دونما الاستناد إلى براهين. غير أن الضَّرورة والعُرف الإجرائيَّين يجعلانني أقول إن أحداث «الأموات» (في نصِّ جويس وفيلم هيوستن معا) تدور خلال وقت ما بين اليوم الأول من العام الجديد والسادس من يناير، وهو عيد «التَّجلي» أو «البوح» (epiphany) ومأدبته في التقاليد المسيحيَّة المتعلِّقة بالاحتفاء بتجلِّي ألوهيَّة المسيح (سأذكر المزيد حول هذا لاحقا في هذه الورقة).

ثمَّة أختان عانستان متقدمتان في السِّن وقصيرتا القامة بعض الشيء، وهما الخالتان كيت وجوليا موكرَن، اللتان تقيمان حفل الرَّقص والعشاء في نفس الموعد سنويّا. هناك أيضا في بيتهما الخادمة الشابة لِلِي التي لا تُقيم كبير اعتبار لفكرة الزَّواج، وميري جين، وهي عازفة أرغن ومدرِّسة موسيقى وابنة أخ السيَّد تين المتوفى، وجابرييل كونْرُويْ وهو ابن أخت المضيفتين المتوفاة، والذي وصل إلى البيت متأخرا ومتذمِّرا من الوقت الطويل الذي تستغرقه زوجته جريتا، التي ترافقه، في ارتداء ملابسها.

والحقيقة أنه حتى من خلال تعليقاته التي لا يتلفظ بها على ما يرى ويسمع فإنه يفرض حضورا أخرق، ومنعزلا، وغير قابل أو راغب في إبداء ود طبيعي نحو جلاسه طوال المَشاهد التي تحدث في الحفلة البهيجة. كما أنه مشغول كثيراً بالكلمة التي عليه أن يلقيها بعد حفل العشاء بحيث إنه يراجع ملاحظاته المدوَّنة ويعود إليها قلقا مرتبكا عدة مرات، ما يشي بشيء ما حول درجة اهتزاز ثقته بنفسه، خاصة مع اهتمامه الزائد بمظهره اللامع الذي يعزِّزه شعوره الدَّاخلي بالتَّفوق الثَّقافي على حضور الحفل الآخرين.

أما الضيوف الآخرون فهم يمثِّلون شرائح متعددة ومتناقضة من الطبقة المتوسطة في دبلن. هناك، على سبيل المثال، شخصية فْرِدي مالِنس، وهي تقريبا صورة نمطيَّة عن الإيرلندي طيب القلب الذي لا بد أن يكون مخمورا قليلا، وأمُّه العجوز التي تتعامل معه ومع هفواته بمداراة الأمَّهات المعتادة. وثمَّة أيضا بارتِل داركي، وهذه شخصيَّة مصقولة على نحوٍ متكلَّف، وهناك ميرفِن بروِن، وهناك أيضا شخصيَّة الناشطة السياسيَّة الملتزمة ذات الوعي الاجتماعي والثقافي العالي مولي آيفورس التي تتَّهم جابرييل، بطريقة غير جارحة، أنه مُوالٍ للسِّياسات البريطانيَّة الاستعماريَّة والتَّمييزيَّة في إيرلندا.

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقة السابقة:

(5): لم أتمكن من الوقوف على هذه الترجمة.

(6): أسامة منزلجي، أهالي دبلن، ط 1 (اللاذقيَّة: دار الحوار، 1983). للوقوف على مقارنة مبدئيَّة بين الترجمتين -- ترجمة عنايات عبدالعزيز وترجمة أسامة منزلجي -- وتبيان مواطن قوتهما وضعفهما انظر: أمير زكي، «ترجمتان عربيَّتان لـ«دبلنيون». نشرت المقالة في الأصل في عدد 6 مايو 2012 من «إيجيبت إندبندنت»، وأعيد النشر في الموقع الإلكتروني التالي: https://boringbooks.net/2012/05/two-editions-of-dubliners.html. تاريخ دخولي إلى الموقع واطلاعي على المقالة: 23 مارس 2023.

(7): جيمس جويس، «الأموات»، ترجمة عبدالمنعم المحجوب، مراجعة رمزي بن رحومة (تونس: مسكلياني للنشر والتوزيع، 2019).

(8): James Joyce, Dubliners, With an Introduction and Notes, Terence Brown (New York: Penguin, 1992), xvi.

(9): نفس المصدر السابق.