عربة تتهادى بالذكريات: «الأموات» بين قلم جيمس جويس وكاميرا جون هيوستن «1 من 9»

14 مايو 2023
14 مايو 2023

«لم يَمُت، بل ذوى كالغشاوة.. كان قد ضاع أو تاه بعيدا عن الوجود، فهو ليس موجودا بعد، ما أغرب التفكُّر في أنه قد غاب عن الوجود بهذه الطريقة، ليس بالموت بل بالذَّوْي، أو بالضياع والنسيان في مكان ما في الكون. كان من الغريب رؤية جسده الصَّغير يظهر ثانية لحظة، صبيٌّ صغير في بذلة رماديَّة ذات زنَّار، يداه في جيوبه الجانبيَّة وسراويله مثبَّتة عند ركبتيه بشرائط مرنة».

- جيمس جويس- (1)

غرضي في هذه الورقة أن أقدِّم دراسة للاقتباس السِّينمائي لواحد من أشهر الأعمال الأدبيَّة السَّرديَّة المكتوبة بالإنجليزيَّة للإيرلندي جيمس جويس James Joyce؛ أي «القصة القصيرة» (short fiction)، أو «القصَّة القصيرة الطَّويلة» (long short story/ fiction)، التي تعُرف أيضا بأنها «رواية قصيرة» (novella)، ويشار إليها كذلك بأنها «رواية فنَّان» (Künstlerroman)، «الأموات»، والذي أجراه -أي ذلك الاقتباس السينمائي- المخرج الأمريكي جون هيوستن John Huston (وهو ذو جذور عائليَّة وعادات إيرلنديَّة يفخر بها، بل إنه يحمل الهويَّة الإيرلنديَّة الرسميَّة إضافة إلى جنسيَّته الأمريكيَّة) وذلك في فيلم روائي طويل كان -للمفارقة ذات المغزى- آخر فيلم يخرجه: لقد أنجز هيوستن عمله الوداعي وهو يحتضر حرفيَّا، لدرجة أنه كان يصطحب معه أسطوانة الأوكسجين إلى موقع التصوير (2).

يحمل الفيلم نفس عنوان العمل الأدبي الذي أيَّا كان الصَّائب أو الخائب من تجنيساته الأربعة آنفة الذكر (وقد يكون كلها مُحِقَّا) فإن، عدد كلماته -أي الأثر- قد بلغ في الأصل الإنجليزي خمسة عشر ألفا وتسعمائة واثنتين وخمسين كلمة.

وفي مسعاي هذا فإني سوف أحدِّد العناصر السينمائيَّة التي يمكن العثور عليها في «الأموات» بوصف ذلك الأثر عملا أدبيَّا أولا يعود لجويس، أو محاولة اكتشاف ما هو سينمائي في ما هو أدبي. وبعد ذلك فإنني سأستكشف بعض المحاججات المُتداولَة في حقل الدِّراسات النَّظريَّة والنقديَّة السينمائيَّة الخاصَّة بأفْلَمَة العمل الأدبي (السَّردي خاصة، وذلك من حيث إن هناك اقتباسات سينمائيَّة لأعمال أدبيَّة غير قَصصيَّة، كالمقال وغيره)، وذلك بقصد أن أُمَوقِع وأُمَوضِع خصائص «الأموات» في ذلك السِّياق. ولأن من الضرورة بمكان أن يتضمن أي نقاش جاد حول أفلمة أي عمل أدبي بعض المقارنات والكشف عن أوجه التَّباين والتَّغاير بين النَّصين -الأدبي والسِّينمائي- فإنني سأضطلع بذلك أيضا.

«الأموات»

عملُ جويس ذائع الصِّيت، والمُعَمَّد أكاديميَّا في حقل الأدب الإنجليزي/ الأدب المكتوب بالإنجليزيَّة هذا، هو مسك ختام مجموعته القصصيَّة «دَبْلنيُّون» (أي طائفة من أهل مدينة دبلن الإيرلنديَّة)، وليس كُلُّهم بالضَّرورة، وذلك بسبب عدم ورود «أل» التعريف في العنوان: Dubliners التي -أي المجموعة- تضمنت خمسة عشر نصًّا قصصيَّا «الأخوات»، «السُّوق العربي»، «إِفِلِن»، «بعد السِّباق»، «مُغازِلان»، «المثوى العام»، «سحابة صغيرة»، «نظائر»، «صلصال»، «قضيَّة مؤلمة»، «يوم اللبلاب في غرفة الاجتماع»، «أم»، «نعمة إلهيَّة»، و«الأموات» (3).

ونصُّ «الأموات» هو «مسك الختام» في ذلك الكتاب بالمعنى الحرفي (من حيث وقوعه التَّرتيبي في آخر المجموعة)، وهو مسك الختام بالمعنى المجازي كذلك (من حيث كونه أقوى نصوص المجموعة بإجماع النُّقاد)، وهو مسك الختام بالمعنى الرَّمزي أيضا (وذلك من حيث أن «السُّؤال الإيرلندي» ينبثق في هذا العمل بصورة تحاول أن تكون خافتة لكنها لا تخفق في أن تكون موجَعَة وموجِعِة معاً) (4).

وقد يكون الأمر مسك الختام بالمعنى الأوتوبيوغرافي أيضا (وذلك من حيث أن بعض كتَّاب السِّير، والمؤرخين، والنَّقاد قد نبشوا وأضاؤوا جوانب من حياة جويس الشخصية التي ارتأوا أنها تحضر مُقَنَّعة في النَّص). والحقيقة أن فيلم هيوستن المُقتَبَس يتضمن عناصر أوتوبيوغرافيَّة أيضا، وذلك من حيث إن كاتب السيناريو هو ولده توني هيوستن Tony Huston، وبطلته هي ابنته أنجلِكا هيوستن Anjelica Huston.

لقد كتب جويس مجموعته القصصيَّة «دَبْلنيُّون» خلال الفترة الممتدة من 1904 وحتى 1907، وإن يكن موعد نشرها قد اضطرَّ للتَّأخر إلى تاريخ أبعد من ذلك (الحقيقة هي أن الطبعة الأولى من «دَبْلنيُّون» قد صدرت في عام 1914 في لندن عن دار نشر «جرانت رِتْشَردز» في سبعمائة وست وأربعين نسخة فقط). أما نص «الأموات» نفسه فقد كُتب في الفترة الممتدة ما بين صيف عام 1906 وحتى ربيع عام 1907 عندما كان جويس مقيما خارج إيرلندا، وتحديدا في مدينتي تريستي وروما الإيطاليتين. (1): جيمس جويس، «صورة الفنَّان في شبابه»، ت ماهر البطوطي، ط 2، (بيروت: منشورات دار الآداب، 1986)، 103-4.

(2). جون هيوستن، «الأموات» (1985، 82 دقيقة، 35 ملم، ملوَّن). التصوير الداخلي: لوس أنجلوس (الولايات المتحدة الأمريكية). التصوير الخارجي: دبلن (إيرلندا). الإنتاج: Wieland Schulz-Keil وChris Sievernich. مدير الإنتاج: Tom Shaw. المنتج التنفيذي: William J. Quigley. السيناريو: Tony Huston. المخرج الفني: Dennis Washington. الموسيقى: Alex North. المونتاج: Robert Silvi. أسماء الشخصيات وممثلو أدوارها: غريتا (Anjelica Huston)، جابرييل (Donald McCann)، كيت موركَن (Helena Carroll)، جوليا موركَن (Cathleen Delany)، ميري جين (Ingrid Craigie)، لِلِي (Rachael Dowling)، السيد براون (Dan OhHerlihy)، فرِدي مالِنس (Donald Donnelly)، السيدة مالنس (Marie Kean)، بارتلي دارسي (Frank Patterson)، السيد غريس (Swan McClory)، الآنسة فولونج (Kate O Toole)، الآنسة أوكلان (Maria Hayden)، الآنسة هجنز (Bairbre Dowling)، الآنسة ديلي (Luda Anderson)، السيد بيرجن (Colm Meany)، السيد كِرْغَن (Cormac O Herlihy)، السيد دافي (Paul Grant)، الحوذي (Bernard Dilon).

(3). أجريتُ 5 تعديلات من اجتهادي، وعناوين النصوص الأخرى اعتمدتها كما وردت في: جيمس جويس، «أهالي دبلن»، ت أسامة منزلجي، ط 3 (اللاذقية: دار الحوار، 2019).

(4). في الإنجليزية، كما في العديد من اللغات التي تُرجم إليها النَّص، بما في ذلك العربيَّة، صدرت «الأموات» في كتب مستقلَّة خارج كونها أحد نصوص المجموعة القصصيَّة «دبلنيُّون».