عبدالعزيز الفارسي بين القصة والسيرة الذاتية
في ندوة "نخلة واحدة في أرض واسعة" التي نظمتها مؤسسة بيت الزبير قبل عدة أيام، استذكارًا للأديب العُماني عبدالعزيز الفارسي بمناسبة مرور سنتين على رحيله، اختار الأكاديمي العُماني علي المانعي أن يقارب قصص الفارسي من زاوية السيرة الذاتية، أي أن الكاتب إذْ يكتب قصصه فإنما يكتب أيضًا سيرته الذاتية، مورِدًا – المانعي - ما سماها "إيحاءات وقرائن" للتدليل على فرضيته هذه، منها استخدام الفارسي في عدد غير قليل من قصصه ضمير المتكلم الذي يستخدمه عادة كتاب السيرة الذاتية، واختياره مدينته شناص فضاءً مكانيًّا لكثير من القصص، إضافة إلى حضور مهنة الطب التي مارسها عبدالعزيز الفارسي في عدد من قصصه، متضمنةً شخصيات أطباء ومرضى وممرضين، وتوظيفه بعض الشخصيات ذات الجذر الواقعي كما هي حال ألطاف صاحب المطعم الذي يتكرر بشكل لافت في عموم تجربة الفارسي القصصية.
والحقيقة؛ أن كل هذه "القرائن" لا تكفي من وجهة نظري لوصم قصص الفارسي (أو أي كاتب سرد آخر) بالسيرة الذاتية، فضمير المتكلم واحدٌ من الضمائر المفضّلة لدى كتّاب القصص والروايات دون أن يعني هذا أن المتكلم هو المؤلف نفسه، وعلى الضفة الأخرى فإنه يمكن للمرء أيضًا أن يكتب سيرته الذاتية بغير ضمير المتكلم كأن يختار ضمير الغائب مثلا (كما في "الأيام" لطه حسين). تحضرني هنا قصة بورخيس الشهيرة التي عنوانُها "بورخيس وأنا"، والتي يخبرنا فيها السارد أن "الشخص الآخر الذي يدعى بورخيس هو الذي تجري عليه الأحداث، أما أنا فأتسكع في شوارع بيونس أيرس وأتوقف للحظة،....إلخ"، ويمضي السارد في حكايته عن بورخيس: "لا أتعرف على نفسي في كتبه إلا بأقل القليل مما أتعرف عليها في كتب أخرى عديدة أو حتى في مداعبة أوتار القيثارة بصورة غير حاذقة وعسيرة"، إلى أن يقول في خاتمة القصة: "لا أدري أينا هو الذي كتب هذه الصفحة"، وهي قفلة ذات مغزى تقول لنا من ضمن أشياء كثيرة تقولها إن الكاتب وإن حضر في قصته بشحمه ولحمه، فإنه يصبح حينئذ شخصية قصصية خيالية لا علاقة لها بالواقع.
إن تصريح كثير من كتّاب السرد "بواقعية شخصياتهم وأماكن الحكي" كما يساجل المانعي كدليل على أن "معظم الأعمال الأدبية السردية لها ملامح سيرية لأصحابها"، لا يضع ما يكتبه هؤلاء من قصص أو روايات في خانة السيرة الذاتية. كل ما في الأمر أن هؤلاء أدركوا أن "أفضل طريقة لفهم الشخصيات الواقعية هي تحويلها إلى شخصيات روائية" كما ينصح أمبرتو إيكو، وبمجرد أن تتحول الشخصية الواقعية (سواء كانت شخصية المؤلف أو سواه) إلى شخصية روائية، فإنها تنفصل تمامًا عن المؤلف، ولا يُمكن النظر إليها إلا كشخصية خيالية. كتب أورهان باموق مرة يشرح هذه الفكرة: "علمتني أربعون سنة من التفاني تجاه فن الرواية أمرًا واحدًا، وهو أن ننتبه إلى حيوات البشر وما نسمعه عنها. فهذه الرواية [يقصد «غرابة في عقلي»] مبنية على مقابلات أجريتها مع العديد من الناس، والتي تعلمت منها أن أكون متواضعًا تجاه حياتهم وألعب بتفاصيلها إلى أن تغدو حقيقية أكثر من الواقع".
هذا اللعب بالتفاصيل التي يعايشها المؤلف في واقعه، إضافة إلى اختراعه تفاصيل أخرى من خياله، هو قوام العملية الإبداعية في السرد، قصة كان أو رواية أو مسرحا. وعليه؛ فإن اختيار عبدالعزيز الفارسي شخصيات من محيطه الواقعي من قبيل الباكستاني ألطاف أو منصور الخبيل أو خالد (مريض السرطان في قصته الشهيرة "أخائف من الموت يا أبا هاجر؟") ثم إعادة صياغة حيوات هؤلاء في مصهره الإبداعي بما يخدم فكرة النص القصصي الذي يكتبه، لا يعني بأية حال أنه يسرد سيرة ذاتية. بل إنه يصنع بالخيال واقعًا جديدًا، يكون في كثير من الأحيان أكثر جاذبية من الواقع الأصلي. من هنا نفهم هذه الحكاية التي سردها ماركيز عن روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة": "روايتي هي خيال من الصفحة الأولى حتى الأخيرة، لكن عددا كبيرا من أساتذة الأدب والسياح والقراء والعشاق، اعتادوا المجيء إلى أراكاتاكا ليَرَوا كيف هي (ماكوندو) المدينة التي صنعتها بالخيال، ويبحثوا عن تلك الشجرة التي قيدوا إليها الكولونيل أورليانو بونيدا، والحديقة التي صعدت منها الفاتنة ريميديوس الى السماء. انظري يا مارسيل كيف يمكن للخيال أن يحل محل الواقع، مثلما يمكن للخرافة أن تتحول في يوم طيب الى تاريخ!".
في عام 2008 أجريت حوارا مطولا مع عبدالعزيز الفارسي نشر في العدد 56 من مجلة نزوى. كان وقتئذ في مفترق طرق مهم. فقد بدأ بكتابة القصص الحقيقية التي كان يحلم بكتابتها، والتي ستنشر بدءا من العام القادم (2009) في مجموعاته الثلاث الأهم ("وأخيرا استيقظ الدب"، ثم "الصندوق الرمادي"، ثم "رجل الشرفة صياد السحب"). قبل هذه المجموعات الثلاث كان الفارسي قد أصدر أربع مجموعات قصصية أخرى، منها الثلاث التي عدها الباحث أحمد الحجري في الندوة ضمن مرحلة الرومانسية؛ وهي "جروح منفضة السجائر"، و"العابرون فوق شظاياهم"، و"لا يفل الحنين إلا الحنين" (أفتح هنا قوسا، لأعترض على اعتبار "العابرون" ضمن هذه المرحلة الرومانسية، فقد كانت انعطافة مهمة في كتابة عبدالعزيز الفارسي القصصية، وبداية النضج الحقيقية لديه، لكن الذي ظلمها ربما أن المجموعة التي تلتها في الصدور "لا يفل الحنين إلا الحنين" تضمنت قصصا من مرحلة ما قبل "العابرون" فبدت "الحنين" أقل فنية منها). الشاهد أن عبدالعزيز بدا في هذا الحوار ذا رؤية عميقة فيما يتعلق بفن القصة، وعارف إلى أين هو ذاهب. وأذكر أنني سألته هذا السؤال: "القراءة. التجارب الحياتية. مخالطة الناس. معاشرة الأصدقاء. السفر. أي هذه المحفزات الكتابية كان لها الباع الطولى في كتابتك السردية؟"، فأجاب: "كل هذه العوامل أضافت لتجربتي، لكني أعتقد أن مخالطة الناس هي العامل الأكبر. لقد احتجتُ زمنًا ليس بالقليل حتى أدرك أنني كنت أكتب في بؤرة منعزلة عن مجتمعي، وأكتشف أن حولي الكثير من الحكايات الإنسانية العميقة التي تحتاج إلى التأمل، وأني لست مركز العالم لأجلده بانكساراتي الخاصة، وأقحمه في أحزاني". هذا الوعي المتقدم بالفرق بين القصة الحقيقية المنغمسة في أوجاع الناس وآلامهم، وبين جلد العالم بالانكسارات الخاصة، أو إقحامه في أحزان الكاتب، يؤكد أن ما كتبه عبدالعزيز هو قصص حقيقية، وألّا وجاهة تُذكَر في ربطها بالسيرة الذاتية.