عالم المتفرجين الواقعي والعالم الخيالي
يقول المؤرخ والعلامة ابن خلدون «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف في الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول...» مقدمة ابن خلدون
ينبع اهتمام المثقف بالشأن العام في المجتمع من منطلق وطني/ مدنيّ بحت، وهذا ما يجبُ اعتقاده اعتقادًا جازما وصريحًا، وعدم إغفاله، بل ترديده وتكراره دون كلل أو ملل أو مجاملة أو خوف من سلطة ما، واقعية كانت أم خيالية. فهل علينا تذكير أنفسنا بأننا في عُمان؟
لا أذكر على وجه الحقيقة متى سمعت تعبير «الاندماج» في المجتمع المحلي في ظفار، قالته المرأة وأكد قولها أحد الحضور الرسميين في حوار جانبي، بدت اللفظة في حينها غريبة، وغير مقبولة بالنسبة لي، فالمرأة كانت تشرح للمسؤول أهمية حفاظها على صناعة المباخر التقليدية، وتوسيع رقعة المشاركة في المحافل الدولية والأسواق العالمية، وفي غمرة شرحها لم تنس توجيه الشكر إلى الجهات الرسمية في المحافظة وعُمان كُلها على جهودهم الطيبة لإيجاد بيئة عمل تسويقية مناسبة لهن حسب المتيسر، كما بينت في نهاية حديثها كيف يسّر عليها وجود معرض تسويقي الاندماج في المجتمع!
بإيجاز وتصرّف، تعرّف موسوعة السياسة لمؤلفها الدكتور عبدالوهاب الكيالي، في (الجزء الأول، الطبعة الرابعة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999م) الاندماج Integration أو التكامل بأنه: «حالة من التوافق والانسجام والاعتماد المتبادل بين أجزاء وأطراف تشكل في مجموعها وحدة أو نظاما، بحيث تكون خصائص الوحدة أو النظام ككل غائبة في أي من العناصر المكونة وحدها... وللتكامل مقومات لا بد من توفرها لتأمين النجاح؛ منها درجة مِن الهوية أو الولاء المشترك والملائمة والمصلحة المتبادلة بين الوحدات، وإمكانية إقامة الاتصال والتفاعل الاقتصادي والاجتماعي بين أطراف التكامل والاندماج، كما يفترض التناسق في المكاسب والخسارة المشتركة. وميّزت الموسوعة أيضا بين نوعين من التكامل: الأول الاجتماعي، والثاني الاقتصادي، وله أكثر من مجال وصيغة. ولا شك في أن البيئات الاجتماعية المختلفة تخلق اندماجات متباينة، كالاندماج الوظيفي في المؤسسة، والإداري والاجتماعي، والسوسيوثقافي.
الناظر إلى مصطلح الاندماج يجده مثاليًا إلى حد كبير، والسعي إلى بناء مجتمع خال من الصراعات والتناقضات مسألة مستحيلة جدا، وفي المقابل فإن الاعتقاد بأن المجتمع حقق نسبة عالية من المَدنية المجتمعية ما يزال يحتاج إلى مراس طويل، والقول كذلك بأن المجتمع أذاب إلى حد كبير الطبقية والقبلية، لا سيما بين فئات الشباب فالمسألة أيضا على غير ما يُقال. إن سمات المجتمع العُماني، لا تنفصل عن السمات التي يمتاز بها المجتمع العربي ومقوماته. وعطفًا على كلام تلك المرأة المشوب بعاطفة كبيرة، هل كانت تعي معنى الاندماج؟ وما النظرة التي انطلقت منها؟ وكذلك المسؤول الرسمي الذي راح يسمعها، هل كان يعلم فحوى خطابها ومعنى الاندماج؟ فإذا كان يجهله فالمصيبة أخف، وإن كان يعلمه فالمصيبة أعظم!
وحسب معرّف البحث جوجل فالاندماج «عملية طويلة المدى وشاملة لكافة أطياف المجتمع، هدفها المشاركة المتساوية والشاملة للأشخاص ذوي الأصول المهاجرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ويعتبر الانفتاح المتبادل وكذلك قبول التنوع داخل المجتمع وتقديره بمثابة شروط محورية لعملية اندماج ناجح».
شخصيًا، أنظر إلى مصطلح الاندماج، كمصطلح سياسي بالدرجة الأولى، ويختص بالفئات والأقليات الأجنبية المهاجرة من أوطانها إلى أوطان أخرى لأسباب متباينة؛ كالحروب واللجوء الإنساني أو السياسي. ويمرّ اندماج الإنسان المهاجر في بيئة أجنبية بالعديد من الحالات، فهو يبذل جهودا كبيرة كتعلّم اللغة والقوانين وأنظمة البلد الجديد. ففي سياق هذا التعريف، فإن استعمال المرأة للمصطلح لم يكن في سياقه، إلا إذا كانت ترى نفسها أقلية، أو أجنبية مهاجرة! وعند الاستعانة بالمعجم اللغوي فمعنى الاندماج يشير إلى «إدماج شيئين معا، واستحكم فيه واستقر»، وهذا لا ينفي توسّع المصطلح وتشعّب وظائفه، ومن بينها ما أشرت إليه أعلاه.
وخلقت وسائل التواصل الافتراضي حالا من الاستغراب والنفور والتعصّب، بين فيديوهات يجري مشاركتها تتحدث بعنصرية غير مبررة، ثم تسجيلات تُبدي اعتذارا، يلحقها رسائل في مجموعات الواتساب تطالب بالوقوف صفا واحدا ومنع التعامل والحظر، وتصيد الأخطاء والعثرات وزلات اللسان حول أي حديث يتناول فئات المجتمع، مما سيؤدي في التهاون معه إلى خلق حال من الفوضى. وعليه أسأل: من الذي يريد خلق التفاوت والتفرقة بين فئات المجتمع، عبر استعمال تعابير معينة عن اللون والأسماء والنعوت؟ وما الغاية من استخدام ألفاظ مؤذية تتخلل في النسيج المجتمعي؟ من الذي يسعى إلى عدم الاكتراث لمجموع المكتسبات التي يحظى بها المجتمع العُماني في ظفار، سواء على صعيد العلاقات الاجتماعية أو التنموية؟
مؤخرا بدأت تتصاعد على أنحاء مختلفة تعابير وألفاظ وسلوكيات غير مستساغة أو مقبولة. سأسوق مثالين لثلاثة مقالات توقفت إزاءهما، كونها تتقاطع مع مقالتي وما أفكر فيه.
المقالة الأولى: (كرنفال المؤتمرات والندوات على الأبواب)، والمقالة الثانية: (الهبوت بين الوظيفة الاجتماعية والصناعة الثقافية - كتبهما الكاتب محمد الشحري)، والمقالة الثالثة: (الولاءات العابرة! - للكاتب أحمد محمد العامري)
فرّق العامري في مقالته بين نوعين من الولاءات؛ الأولى «العابرة للحدود»، والثانية «الولاءات العابرة للمجتمع»، فعرّف الولاءات العابرة للحدود بمجموعة من الأفراد أو المجموعات يعيشون في دولة معينة، لكنهم يشعرون فيها بالانتماء أو الولاء لجهات أو دول أخرى خارج حدود وطنهم. يُسبب هذا الولاء كما يرى الكاتب خطورة على الأوطان تتمثل في «تقويض الاستقرار الوطني، والتدخّل الأجنبي، وضعف الولاء الوطني». أما الولاءات العابرة للمجتمع فهي تلك التي تشير إلى ولاءات الأفراد لمجموعات داخل المجتمع، تختلف عن الولاء للدولة ككل، مِثل الولاءات القبلية، والطائفية، والعِرقية، وتتجلى خطورة هذا النوع كما يكتب في «التجزئة الاجتماعية، والصراعات الداخلية، وإعاقة التنمية»، وانطلاقا من مسؤوليته كمواطن مسؤول أولا، ومثقف مسؤول ثانيا، يقترح بعض الحلول حتى تذوب تلك الولاءات، وتتمثل في «ضرورة تعزيز الولاء الوطني الشامل من الدولة تجاه مواطنيها بخلق سياسات تعليمية وثقافية واجتماعية، هدفها تقوية الشعور بالانتماء إلى الوطن ككل واحترام التعددية الثقافية والدينية داخل المجتمع».
(2)
تناول محمد الشحري في مقالته (كرنفال المؤتمرات...) الفعاليات التي تقام تحت مظلة مهرجان ظفار السياحي المفتقدة حسب رأيه إلى المحتوى، وأن الجامع بينها هو التشابه في الافتتاح والختام والتقاط الصور لراعي المناسبة، ويُثار الأسى حول الأفكار التي تُلقى والتوصيات التي تُكتب والاقتراحات التي تُتلى دون خضوعها للتقويم أو المتابعة، ويتساءل الكاتب: «هل ما تزال العشوائية مهيمنة على فعاليات المهرجان؟»، ويُنهي مقالته بالحاجة إلى تشكيل لجنة منبثقة عن المجلس البلدي ومكتب المحافظ مهمتها متابعة تنفيذ التوصيات، وإنشاء بنك للأفكار والمقترحات الصادرة من الندوات والفعاليات. كما يقترح إضافة تقييم الأنشطة قبل تنفيذها، والموافقة على إقامة الفعاليات ذات الجدوى، وأيضا استحداث منتدى سنوي في ظفار يحمل اسم منتدى ظفار الاقتصادي يَخضع لشروط المنتديات الدولية، وما يندرج أسفلها كمناقشة ملفات كالمناخ والاقتصاد والأمن والثقافة. أما مقالته الأخرى (الهبوت...) فركّز فيها على مسابقة شاعر الهبوت التي نظّمها مجلس ظفار الثقافي للتراث والإبداع (قيد الإشهار) وكيف كان من الممكن إقامة المسابقة دون ضجيج أو ردود أفعال غير مرغوبة؛ بسبب أن لجنة التحكيم لم تنتهج آلية ممنهجة ومحكّمة بعيدا عن التصويت الجماهيري... إلى آخر المقالة».
سأتفق مع ما جاء في المقالات الثلاث، التي أجدها تصبّ في معنى الحرص على الوطن من الانزلاق إلى أحوال صعبة. لقد ساهمت الوسائط الافتراضية في جعل العالم قرية صغيرة جدا، والرضوخ لشروط العولمة في مقابل تذويب الهوية الثقافية قضية غير مرغوب فيها. إن الحفاظ على المجتمع ومكتسباته مسألة وطنية. والناظر إلى منظومة النسيج الاجتماعي في عُمان ككل، عليه الحرص في الابتعاد عن النعرات القبلية والتحزبات الاجتماعية الضيقة؛ لأنها مفسدة وباب للفتنة. لا يرغب أحد في تقسيم المجتمع إلى مقاصير وشُرفات، ولا إلى أماكن مخصصة بعضها للمتفرجين وأخرى للممثلين. إن هذا الوضع أشبه بستارة القماش التقليدية في المسرح «التي تفتح وتُسدل ما بين الفصول، وتشكّل حاجزًا يَفصل بين عالم المتخِيل وعالم المتفرجين الواقعي».