عاصم الباشا.. يعيد للمعري رأسه

10 أبريل 2023
10 أبريل 2023

حين أزيح الستار الأبيض عن تمثال رأس (أبو العلاء المعري) في إحدى الساحات لبلدية مونتري شرق باريس، وظهر اسم النحات السوري عاصم الباشا (1948) المولود في بيونس آيرس لمهاجر سوري وأم أرجنتينية. حين رأيت عاصم وهو يتحدث عن التمثال، بحثت عن كتابه (الشامي الأخير في غرناطة) الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات 2008-2009، عن اليوميات. كان عاصم قد أهداني الكتاب في الدوحة ديسمبر 2010، أثناء إقامة المؤتمر الدولي لأدب الرحالة العرب والمسلمين، المُنظم من قبل المركز العربي للأدب الجغرافي «ارتياد الآفاق»، في مؤتمر ابن بطوطة الذي قدمت فيه ورقة بعنوان (ظفار في تحفة النظار). حدثت عاصم عن غرناطة التي أقام بها منذ أواخر الثمانينيات. غرناطة التي زرتها في شتاء 2009، وكتبت عنها لاحقا في كتابي (الطرف المرتحل). ثم جرنا الحديث إلى دمشق، وجالري مصطفى علي في الحارة القديمة، الذي تدربتُ فيه مع مجموعة من المشاركين في دورة الإدارة الثقافية، قبل لقائي بعاصم بشهر تقريبا. امتعض عاصم من ذكري للجالري وصاحبه لأسباب إيديولوجية لا علاقة لها بالفن.

عُدتُ لقراءة كتاب الشامي الأخير في غرناطة، مرة أخرى وبنفس آخر، وبين القراءتين عقد من الزمان، جرت فيه أحداث جسام في الوطن العربي وفي سوريا على وجه التحديد، فقد فيها عاصم شقيقه في مدينة يبرود، كما فقد أيضا الكثير من أعماله التي يحتفظ بها في منزل أهله. توقف بعدها عن العمل لمدة أربع سنوات، لكنه أثناء زيارته إلى باريس عرض عليه الممثل السوري فارس الحلو، تشييد تمثال للمعري، فوافق الباشا على نحت التمثال المكون من مادة الصلصال، بارتفاع 3أمتار، ووزن طن ونصف. وافق الباشا على تنفيذ منحوتة المعري لإحساسه بقيمة المعري شخصا ووجدا، شخصا لأن الباشا كان مسكونا بالمعري ودعوته إلى إحكام العقل في الحياة، وكذلك حكايات والد الباشا لأولاده عن المعري في المهجر الأرجنتيني. أما وجود الوجود فيعود إلى مواجهة العقل والحكمة ضد التطرف والظلامية.

اشتغل عاصم الباشا على رأس تمثال أبي العلاء المعري، الذي قطعت جبهة النصرة رأسه في معرة النعمان سنة 2013، كدليل على أن الظلاميين أعداء بالضرورة لكل رمز أو أيقونة للفكر والحرية، وكان تمثال أبي العلاء المعري قد نفذه النحات السوري فتحي محمد قباوة (1917-1958) بتشجيع من المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1944 وبمباركة من عميد الأدب العربي طه حسين، الذي يشترك مع المعري في غياب النظر وحضور الرؤية.

دق الاعتداء على تمثال رهين المحبسين ناقوس الخطر، وكان إيذانا بتحول خطير في المشهد السوري والمنطقة بأسرها، بعد هيمنة داعش على الساحات والأحداث. فمن يرى تمثالا من البرونز كفرا وضلالة، لا يمكن له أن يتسامح مع الآراء التي تخالفه، ولا يمكن له أن يفهم معنى الحرية ولا العدالة ولا التعايش مع الآخر.

استوقفني ما كتبه الباشا في كتاب الشامي الأخير، عن رواد النحت الإسبان، مثل خورخي أوتيثا (1908- 2003) ومواطنه إدواردو تشييدا (1924-2002). أوتيثا نفسه لم يكن فنانا فحسب بل فيلسوفا متمردا كتب عنه الباشا بعد رحيله «رحل أحد أعمدة النحت في القرن العشرين، معلم استنطاق الفراغ ومختزل النحت إلى ما يشبه جمع العلم بالحب، خلطة يتأتى منها الشعر..، مات أوتيثا الذي عالج العدم كحضور للغياب، كفضاء بلا زمن. وبموته جعل الغياب حاضرا».

أوتيثا كان صاحب مواقف مشرفة منها رفضه لجائزة بينالي ساو باولو، لأنه يرى أن لجنة التحكيم ظلمت الفنان نيكولسون. يقول النحات المنتمي لإقليم الباسك «إنه ملحد متدين، لأن كل إنسان متدين بطبيعته». وأيضا قوله «لا أريد بلوغ النجاح لكيلا أسيء لسيرتي الذاتية».

إن قيمة الفن الحقيقية تكمن في قدرته على الاحتفاظ بالمعاني والأفكار السامية، التي تمر على بال المرء ولا يسعها المقام إلا في لوحة مرسومة أو كتلة منحوتة أو كلمة مكتوبة.