صورة راشيل كوري
لعلني أدرك الآن أي عبارة ناقصة تركتها خلفي وأنا أغلق مقالي الأخير على صفحات «عُمان» الأحد الماضي، حينما كتبت عن أثر التواطؤ الشعبي داخل الولايات المتحدة في صياغة وتدعيم حملة الإدارة الأمريكية على العراق، منذ حرب الخليج الثانية في أغسطس 1990 إلى سبتمبر 2001 وصولا إلى اجتياح العراق في مارس 2003، حتى جاء اليوم الذي لقيتْ فيه تلك الحملة ما يؤهلها من الشرعية الشعبية والتبرير الأخلاقي والعقائدي للمضي قدما في المغامرة العسكرية نحو العراق، بعد أكثر من عقد كامل من الدعاية اليومية المكثفة للحرب والموجهة للوعي الأمريكي...، إن العبارة الناقصة هي العبارة التي يجدر بها أن تعترف بمدى صعوبة أن نتعامل دائما مع الشعوب والأمم بصيغة الجمع المطلق، لا سيما وأننا نحن -عربا ومسلمين- لطالما كنّا ضحايا لهذه الصيغة التعميمية المفرطة في التبسيط والإلغاء. ولكن يجب أن أشير في المقام ذاته إلى أنني لا أحاول أن أستدرك بهذه الكتابة الجديدة ثغرة مفتوحة في مقال سابق بقدر ما أسعى للبناء على ما سبق بإضافة بعد آخر للحكاية، في مكان وزمان غير بعيدين عن مرحلة الحرب على العراق.
كان علي أن أرجع بمسلسل الأحداث والأخبار أياما قليلة قبل الحرب لأتذكر راشيل كوري، التي حلمت ذات يوم من طفولتها أن تصبح شاعرة تعيد ترتيب العالم في كلمات جديدة، قبل أن يتحول جسدها إلى أطلال تحت جرّافة إسرائيلية جنوب قطاع غزة المحتل آن ذاك، وقبل أن تتمكن جنسيتها الأمريكية (التي تنقذ منتسبيها عادةً من مآزق كثيرة حول العالم) من أن تكون سببا كافيا لإنقاذها من ذلك الحتف الوحشي الذي يلقاه الفلسطينيون يوميا في الأراضي المحتلة أمام مختلف آلات القتل الإسرائيلية. إنني أقف أمام الصورة النهائية لكوري، مفكرا بكل أولئك الذين اختاروا بمحض إرادة الفكر أن يغادروا معسكر المنتصرين الكبير ويلتحقوا بالمعسكر المهزوم في سبيل أن يكتبوا لأنفسهم، ولغيرهم ربما، سيرةً مستقلةً عن سيرة الجماعة، رافضين أن يكتفوا بالصمت والحياد الذي يجرح الإنسان فيهم، ولأن الهوية مسألة اختيار إذا ما أراد المرء أن يكون فلسطينيا، كما يقول إدوارد سعيد.
في السادس عشر من مارس عام 2003، أي قبل أربعة أيام فقط على اجتياح الجيش الأمريكي للعراق، استدارت كاميرا التلفزيون الأمريكي إلى جهة غير متوقعة في ذلك التوقيت المتدحرج نحو حرب القرن الجديد في العراق، إلى جهة اسمها فلسطين، التي لطالما كانت مشوشة الملامح بالنسبة للمشاهد الأمريكي. من هناك جاءت الصورة قبل الخبر مكللة بشرف الدم لشابة أمريكية اختارت ذلك العبور القاتل بين مكانين يمثلان جوهر التناقض الشاهق في التاريخ الحديث. إنها راشيل كوري، بنت الثالثة والعشرين التي غادرت واشنطن إلى قطاع غزة مع نشطاء في حركة التضامن الدولية (أولمبيون من أجل السلام والتضامن) لتقف درعا بشريا أمام جرافة إسرائيلية تتقدم لهدم بيت شقيقين فلسطينيين في رفح، لكنها بُوغتت بأقصى خلجات الانتماء للمكان والناس، ذلك الانتماء الذي لا يكتمل إلا بالموت في أبلغ صوره الشعرية مأساوية.
عدت لقراءة رسائل راشيل التي كتبتها إلى أمها من قطاع غزة، في فترة تتزامن مع الانتفاضة الثانية وحملات العقاب الجماعي الذي كان يتعرض له الفلسطينيون. تقول: «أجد صعوبة في الوصول إلى أخبار العالم الخارجي، ولكن يبدو لي مما أسمعه أن تصعيد الحرب على العراق أصبح حتميا». إنها تكتب إلى أمها ما يشبه المقارنة بين طفولتين نقيضتين تماما كتناقض مكانهما، طفولة آمنة ومستقرة في أمريكا مقابل طفولة فلسطينية لاجئة شُردت عن مكانها وهُجَّرت لمرتين أو ثلاث داخل الوطن التاريخي نفسه. تقول في رسالتها إلى أمها (7 فبراير 2003): «إن كنتُ أشعر بالغضب الشديد لمجرد دخولي القصير وغير الكامل إلى ذلك العالم الذي ينتمي إليه هؤلاء الأطفال فإنني أتساءل كيف سيشعرون إذا دخلوا إلى العالم الذي أعيش فيه»!
أما والدتها فقد صرَّحت للجزيرة في الذكرى العشرين لاغتيالها أن جهود العائلة القانونية مع القضاء الإسرائيلي قد انتهت منذ 2015 بتأييد المحكمة العليا الإسرائيلية لقرار المحكمة المركزية الذي يفيد بعدم وجود أي خطأ من قبل الجيش، فالجرافة «كاتربيلر» ذات 60 طنا، التي أصبحت آلة من آلات صناعة التاريخ الصهيوني في فلسطين، لم تكن تقصد إزعاج العائلة الأمريكية إلى هذا الحد!
سالم الرحبي شاعر وكاتب