صخر والشارخ
(1)
كلما زرت صلالة أحبُّ أن أتبين الاختلافات الحاصلة بين منطقة (الحصن) التي كنتُ أعيش فيها والمدينة (صلالة) الجديدة بشوارعها وجسورها ومحلاتها و(عوقد الشمالية) التي أسكن فيها الآن. حرصتُ على تبين ذلك في مقالات سابقة كتبت فيها عن صلالة، وركزتُ على تناول أجزاء ذاتية تخصّ علاقتي بالأمكنة التي تنقلت إليها، سواء في منطقة الحصن كقصر الحصن أو الحارات الثلاث مثلا أو صلالة الجديدة كشارع 23 يوليو فيها، أو مكتبة العائلة أو محل بيع الأشرطة السمعية، وسواء كان الجزء الذي أكتب عنه يدور عن طفولتي التي قضيت أجملها تحت أشجار النخيل في انتظار «الباص» المتجه إلى مدرسة «قصر الرباط»، أو انتقالي إلى مدرسة أخرى لخوض مغامرات اكتشاف وجوه جديدة لحياة التعليم في مدرسة «23 يوليو» بالدهاريز أو مدرسة «النور الثانوية» في صلالة، ففي الأحوال جميعها كنتُ «أكوّن نفسي».
أدّت ظروف الانتقال من مكان إلى آخر إلى تعدد التصورات واختلاف وجهات النظر حول القيمة التي يلعبها المكان في مرحلة الطفولة أو التنشئة أو الدراسة، لتشكل المدينة انعكاسًا لمجمل التصورات الذهنية، وتنوعًا في أسلوب التعبير عنها.
وفي كل جزء صغير (سكة، حارة، شارع، خور، وادٍ، جبل، محل، مكتبة، عمارة، دكان، تنور، ساقية، وبئر) كنت أتناول فيه ذكرى معينة أجدني أغوص عميقا في الماضي الذي لم يبتعد كثيرًا؛ لأنه ما زال يسكنني ويُحرك كتابتي في بعض حواراتي أو لقاءاتي. وليس أدل على ذلك من «شلة صديقات المدرسة» اللاتي إذا التقينا نعيش حالا من الحنين إلى الماضي بكلماته وأغانيه وطعامه، وهزله وجَده. وصحيح أن مظاهر صلالة قد تبدلت وتحولت، لكن فعل الذاكرة يعمل بطرق عديدة متباينة.
اليوم أريد الكتابة عن مظهر من مظاهر التحول الاجتماعي والثقافي في صلالة. يقف وراء كتابة هذا المقال ظرف شخصي بحت، ففي غمرة انشغالي بكتابة مادة دراسية، تعطل «الكمبيوتر» الذكي! وآثر الصمت. تذكرت أن أخي مبرمج «كمبيوتر» فكلمته وطلبت منه التدخل الفوري لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وبعد اجتماعات ونقاشات وعمليات إسعاف قال لي: «عليه العوض ومنه العوض». غضبت وسألته: أين ذهب زمن «الكمبيوتر» الضخم العنيد الذي كان لا يتزحزح من فوق الطاولة؟ أين اختفت مكاتب «كمبيوتر صخر» التي رافقتنا في الثمانينيات؟
أحدث اكتشاف «كمبيوتر صخر» في عالمنا العربي في أواخر الثمانينيات هزّة مجتمعية وفكرية كبيرة، ويجب العودة وأنا أكتب عن كمبيوتر صخر إلى محرك البحث جوجل فيقول التالي: «حاسوب صخر كان مشروعًا مشتركًا انطلق في عام 1982م، وذلك لكسر الحاجز التقني بين الشعوب العربية وتقنية المعلومات، بين شركتي (العالمية) الكويتية و(ياماها) اليابانية، وقد نجح المشروع بشكل كبير، وتم بيع مئات الآلاف من الأجهزة».
الناظر إلى الفقرة السابقة سيوقفه ما يتعلق بالصراع التقليدي الحاصل بين العلم والجهل، بين شعوب تنتج وأخرى تستهلك، بين عقول تفكر وتهيئ لها بيئة منتجة وعقول أخرى تلقى الصد واللامبالاة. سأنتقل إلى الجزء المتبقي من تعريف جوجل فيذكر التالي: «أدّى نجاح مشروع الحاسوب صخر لظهور العديد من المشروعات الشبيهة، التي كانت كلها تستخدم نظام التشغيل صخر «...» في الدول العربية التالية: الكويت، والمملكة العربية السعودية، وفي الجمهوريتين العراق وليبيا. وبينما كانت سوريا والأردن ومصر على وشك إنتاج أجهزة تعمل بالنظام نفسه أعلنت شركة مايكروسوفت المالكة لحقوق نظام التشغيل MSX عن إيقاف تطويره، وذلك في عام 1990م».
إذا كنا سنؤجل الحديث حول العلاقة التصادمية ما بين الغرب الذي يسبقنا بأزمنة طويلة في التكنولوجيا وتطورها، وتأخرنا كعرب، فلا يمكن التغافل عن التطور الذي كان يمكن أن يحدثه «كمبيوتر صخر» في مجتمعات الدول العربية من المحيط إلى الخليج لاسيما مع تطبيق استخدام اللغة العربية! فالدول العربية من ضمن سياج الدول المنعوتة بدول العالم الثالث، نقلا عن (محمد سعيد، الكمبيوتر في العالم الثالث، مجلة الهلال، العدد السادس، 1984م) ليست متطورة تكنولوجيا لكنها آخذة في النمو والتطور، حيث سبقنا كل من (البرازيل والهند ويوغوسلافيا) إلى محاولات تصنيع «الكمبيوتر» والتخلّص من سيطرة القوى العالمية الكبرى في مجال بيع وشراء أجهزة «الكمبيوتر»، «...» فمشكلات اقتصاديات الكمبيوتر كثيرة تتمثل مثلا في «التصميم وتطوير مجالات البحث للحصول على صيغة مختلفة لنوعية الإنتاج تختلف عن الإنتاج الذي يسود الأسواق والمنتج في الدول الكبرى، ومشكلة نقص الأسواق وعنصر المنافسة غير المتكافئ ومسألة صيانة الكمبيوتر واستخداماته وتوجيه من يتخصصون في العمل عليه...».
في سياق الاجتهادات أو المحاولات التي بعثت على الأمل في عالمنا العربي في سوق التكنولوجيا الجهد الذي قدمه رجل الأعمال الكويتي الراحل (محمد عبدالرحمن الشارخ 1942م- 6 مارس 2024م) الذي عمل رئيسا لمجلس إدارة شركة صخر لبرامج الحاسب عام 1982م، وإليه يُنسب الفضل في إدخال اللغة العربية إلى الحواسيب أول مرة في التاريخ. أسس الشارخ الشركة العالمية للإلكترونيات في الكويت والسعودية، وفي الكويت أسس مشروع صخر لتعريب الكومبيوتر، وبعد ذلك طُوِّر القارئ الآلي والترجمة الآلية والنطق الآلي»، وغيرها من المشروعات التي تخدم اللغة العربية والقرآن الكريم.
(2)
بدأت صلالة التعرّف على كمبيوتر صخر عن طريق معهد صخر في أوائل التسعينيات، ويمكن مقارنة قصة التعرّف إلى جهاز الكمبيوتر وخوض غمار التدريب في تكنولوجيا المعلومات وتاليا الاستثمار فيه، بقصة اكتشاف النفط في الجزيرة العربية. شكَّل معهد صخر قفزة كبيرة في حياة جيل كبير من الذكور والإناث. حيث مكّن شرائح المجتمع المختلفة من الدخول إلى عالم جديد من المعرفة والتقنية الحديثة.
هناك اتفاق على أنّ معهد وكمبيوتر صخر كانا الشرارة الأولى لاكتساح الشوارع في ظفار بمحلات بيع الكمبيوترات وإكسسواراتها. أتذكر في صلالة الجديدة حيث كنا نسكن، افتتحت عدة محلات لبيع الكمبيوتر هَويتها لم تكن واضحة تماما كهوية كمبيوتر صخر؛ بمعنى أن احتواءها على بضع أجهزة كان الهدف منه التسلية لا التدريب. كان الناس يسارعون إلى تقليد بعضهم، فإذا فتح أحدهم محلا لبيع الكمبيوترات في شارع (النجاح)، قلده الآخرون في شارع (صلالة الجديدة) أو شارع (الغبيراء) والعنصر المختلف بينهم هو عنوان المحل، أما القاسم المشترك، فكان كلمة كمبيوتر، وعندما بدأت التوجيهات الرسمية بتعريب المصطلحات لدى الجهات الحكومية، سارعت مكاتب الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات إلى تعريب كمبيوتر إلى مفردة الحاسب الآلي، وهكذا انتشرت اللفظة المعرّبة بعد ذلك في جميع ولايات ظفار.
في أوائل التسعينيات أخذ انتشار الكمبيوتر يشكل طفرة واسعة. كان هناك دورات كثيرة مبتدئة ومتقدمة، سارعت المديريات إلى إدخال الكمبيوتر في دوائرها وأقسامها وتأخرت أخرى. وكان هناك أناس درسوا على حسابهم تلبية لشغفهم الخاص، بالرغم من ارتفاع رسوم الدراسة في معهد صخر، وأناس آخرون استطاعوا أخذ دورات على حساب الحكومة، وفي مراحل التقدم إلى الوظيفة كان مَن لديه شهادة متقدمة في تشغيل الحاسب الآلي له الأولية في التوظيف.
عندما ظهر معهد صخر لتعليم مبادئ الحاسوب الآلي كان موقعه في رقم (5) بصلالة الشرقية، ثم استبدل وانتقل إلى منطقة صلالة الجديدة، وظهرت في مكانه بعد ذلك معاهد أخرى. كان كل من يتعلم في معهد صخر يعد من فئة المميزين كأول معهد لتعلم الكمبيوتر المُعرّب.
سبق العمل في السوق على الكمبيوتر الارتباط بآلة الطباعة الإلكترونية، وانكب الناس يتدربون على أصولها، ثم أخذ المجتمع يستجيب لدواعي التنمية المتطورة، فتزامن العمل على الكمبيوتر مع الإنترنت، في صلالة بالقرب من بيتنا، كان افتتاح محل لبيع أجهزة الكمبيوتر يفتتح إلى جواره محل آخر لألعاب التسلية، ولا يزدان سطح البيت إلا بقرص ستالايت يتنافس على قنواته المشفرّة من لديه وفرة في المال، ثم مع الوقت، صار كل بيت يمتلك ساكنوه (اللابتوب) الخاص، وتطور الحال بعد ذلك خطوة خطوة فأصبح كل فرد له (بيجر). في المقابل كانت الألعاب والبرامج التي كان يقدمها كمبيوتر صخر في بدايته مقتصرة على «مغامرة البطريق، وابن سيناء، واختبر معلوماتك، والوطن العربي، واختبر ذكاءك، ونافذة على العالم، والجدول الدوري»، صار الفرد المنتمي إلى اقتصاديات السوق الجديدة والعولمة لديه أجهزة ألعاب التسالي الرقمية وتوابعها، وفي هذا الوقت يتمدد العالم بكل سطوته المالية في الذكاء الاصطناعي الذي يتدخل في المواد الجامدة وغير الناطقة، فيحركها إلى مواد حية تنطق ألوانها بالبهجة وأصواتها بما لا يخطر على العقل والفؤاد.
اليوم في ظل زحمة التكنولوجيا واختفاء محلات تعليم الحاسب الآلي وحلت مكانها محلات بيع زينة السيارات والمطاعم والأزياء وأدوات التجميل، ومع انتشار مقاهي القهوة التي صار كل زبون يدخلها يحمل فوق كتفه حاسوبه الخاص لينزوي في ركن يطلب كابتشينو، ويفتح حاسوبه ليغرق في تواصل افتراضي مع خوارزميات لا نهاية لها، أرجع إلى الماضي بكل بساطته وفَقره المعلوماتي وتقشف فضاءاته، اشتبك مع أغنية من التراث المرباطي، ولا أنوي فعل شيء سوى تأمل شكل مدينة صلالة الجديد.