شقاوة العقل !

15 يناير 2025
15 يناير 2025

ذو العقل يشقى فـي النعيم بعقله، وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم. يأخذ بعض الناس هذا البيت أخذا فـي غير موضعه وفـي غير مكانه الصحيح؛ فمعناه الحقيقي هو أن العاقل العارف يشقى لا بمعرفته وعلمه، بل بما يعرف ويعلم من الأمور. فالمعرفة والعلم فـي أصلهما وأُسِّهما سعادة وبهجة ونور، ولكن المعرفة التي تجعل المرء يرى ما خلف الأبواب المغلقة، وما خلف الجدران والأغلفة تصيبه بالشقاء والتعب الذهني والبدني. أما الشطر الثاني فإن الجاهل يظن بأنه فـي خير عميم؛ لأنه يرى ما تحت قدميه -كما يقول الناس- فحسب، ولا يرى أبعد من ذلك. وأصل هذا الكلام حوار طويل مع صديق أخذنا النقاش فـي هذه الفكرة.

وذلك لأن مما يتردد على الأسماع قول البعض إن البؤس والشقاء رهينا الوعي، وأن المرء أجدر به أن يكون جاهلا مغيبا عن الواقع لا يعرف منه شيئًا أو يتألم بسبب معرفته تلك. ولكن هل لهذا القول وجه من الصواب؟ نعم، ولا. إن المعرفة الصحيحة هي أخت السعادة وربيبتها؛ فهي من تجعل المرء يقبل على الحياة إقبال المتفائل الواثق، ولا يعني التفاؤل بحال أن يكون المرء ناسيًا الواقع أو غافلًا عن إمكانية وجود المنغصات والكروب، إنما هو متفائل لعلمه بأسباب تلك المنغصات وبقدرة المعرفة على تخفـيف آلامه وتحسين حياته ونظرته إلى الأمور. أما قولنا بنعم؛ فهي للمعرفة التي يستعملها المرء كما يستعمل الطالب معلوماته للاختبارات وينساها فور انتهاء تلك الاختبارات وحصوله على النتائج، فهي معرفة آنية مؤقتة ذات مهمة منتهية. أو قد تكون تلك المعرفة منقوصة بها خلل فـي التأسيس أو غياب للمنطق.

إن العبارات التي نأخذها كمسلمات؛ لأنها نوع من الثقافة الشعبية المرتبطة بالأمثال والحكم، هي عبارات خطيرة بصدق. فـيمكن لعبارة صادقة حسنة أن تؤثر تأثيرًا طيبًا على متلقيها، فـيبذل فوق ما يستطيع بحماسة وإقبال منقطع النظير. ويمكن لعبارة هادمة هدَّامة أن تجعل ذلك المتلقي محطمًا لا يلوي على شيء، ولا يرغب بشيء، بل ربما ينعزل ويعتزل قائل العبارة والمحيط الذي قيلت فـيه.

العقل أداة فـي الإنسان ولأجل الإنسان، فإما أن تقوده إلى الهناء والسعادة أو الشقاء والتعب والنصب. ولأنه أداة، فهو قابل للتغيير والتغير، وقابل للفساد والإفساد على السواء، ففساده بمرضه أو بالمدخلات الخاطئة التي يقيس ويعتمد عليها فـي تعامله مع الحياة والناس. ولنتذكر قول الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي:

فَامْشِ بِعَقْلِكَ فَوْقَهَا مُتَفَهِّمًا

إِنَّ الْمَلَاحَةَ مِلْكُ مَنْ يَتَفَهَّمُ

فالعقل يقود المرء الواعي به، المدرك له إلى السعادة والنعيم، ويقوده إلى الجحيم إن أُهمل وطُرِح. وهذا يذكرني بتلك العبارة المتداولة أيضًا «العقل السليم فـي الجسم السليم» وهي منسوبة إلى غير واحد من اللاتينيين القدماء، أحدهم شاعر والآخر فـيلسوف، وبغض النظر عن القائل، فإن عبارته الدقيقة خلاصة حياة من التأمل والتجربة. فالعقل الذي يتغذى الغذاء السليم الطيب، لا ينتج إلا طيبًا جميلًا، والعكس بالعكس. لذلك لا يتعجب المرء حين يقابل اِمرَأً يحمل شهادة الدكتوراة أو بلغ الأستاذية ولكنه ضيّق الفكر والنفس، لا يعرف إلا تخصصه ولا ينتفع بعلمه فـي الخير. وهو ما تجلى على سبيل المثال فـي التاريخ الغربي القديم والمعاصر فـي أمثلة لا يجد المرء تفسيرًا منطقيًا لها. فكيف بفـيلسوف يتحدث عن الجمال والأخلاق والروح كهيجل ثم يرى أقواله وأفكاره عن العبودية؟ ومن يتخيل بأن يبرّر فلاسفة وأطباء وعلماء دين إبادة شعب كما يحدث فـي غزة اليوم رغم الصور والبيانات والمعلومات المتاحة التي لا تدع مجالا للبس أو الشك! ليست المعرفة ولا العلم من يجعلان المرء شقيا إذن، بل الكيفـية التي يرى بها الأمور والعقل الذي يعالج به معترك الحياة وما يطرأ فـيها وعليها.