سودانيات يا « رَكْشَة» خذني إلى المركزي (2-2).. انفجر إطار السيارة!
كنا حينها سبعة ركاب. قبل صعودنا إلى الكُبري سقطت «دانة» (أحد الأسلحة التي استخدمها الدعم السريع في الحرب) فنجونا منها بأعجوبة، وفي غضون ثانية فقط! وبالرغم من انفجار إطار السيارة استطعنا أن نعبر الكبري ووصلنا إلى مدينة «المهندسين»، وكانت الركائز التابعة للجيش قد أوقفتنا وبدأوا في تفتيشنا، وحاولوا مساعدتنا بإصلاح إطار السيارة، لكنهم لم يستطيعوا إمدادنا بشيء، وحاولنا من جديد مع السيارة فمضينا قُدما. حدث الأسوأ في وقتها، تعطلت السيارة بأكملها، ونحن في منتصف مدينة المهندسين، كان هناك معسكر للجيش، ويبعد عنه بعشر دقائق ركائز قوات الدعم السريع التي لا يستطيع الجيش عبورها منتصبة أمام الجميع.
أصّر زوج أختي على المسير؛ إذ لم يكن باستطاعتنا فعل أي شيء. غادرنا السيارة التي ما عادت تجدي نفعا، وصوت الرصاص ما زال مستمرا فوق رؤوسنا، فاتصلنا بأهلي الذين استطاعوا أن يأتوا إلينا، ويأخذونا إلى منزلنا. كانت تلك الليلة من أهدأ الليالي بعد الكابوس الذي عشناه، فنمنا في أمن وأمان نستشعر الأمل بأن الحياة سوف تعود إلى سابق عهدها، فعيد الفطر كان يُبشّر بقدومه.
جاء العيد. ما إن لبث ثلاثة أيام حتى ازداد الوضع سوءًا وعبثًا. حينذاك قررت أنني يجب أن أخرج من هذا المكان. اقترحتُ فكرة الخروج على أهلي وباء الاقتراح بالرفض.
قالوا: «الموت واحد، نموت في بيوتنا، ولا نموت ذلا في الشوارع».
كانت لديَّ «فيزا» سارية، فكرت في الهجرة، هذا بعد أن بدأ الأمل الذي كان يطمئنني يسير بي نحو سراب المستقبل. تلاشى ذلك الأمل تماما، فعرضت فكرة الهجرة للمرة الثانية على أختي، وكان بينهم مَن يُريد الخروج، لكنه لا يملك جوازا، وآخرون منهم لا يعرفون ما الموجود خارج عتبة باب المنزل! اتخذت قرارًا جذريًا بأنني سأهاجر فاستعنت بأخي ليتصل بأصحاب الحافلات ويسألهم عن أسعار التذاكر. لم تكن لديَّ النقود الكافية، كنت أملك (٢٥٠ دولارا)، وكان سعر التذكرة وقتها (٢٠٠ دولار) أيّ ما يعادل (١٠٠ جنيه سوداني).
قلتُ في نفسي: «بما أنني أملك السعر الكافي لإيصالي إلى مصر، وقد كانت أختي الصغرى هناك؛ فسأذهب إلى مصر» فقام أخي بإعطائي نقودا سودانية لسداد رسوم المعابر.
في صباح الرحلة إلى مصر ونحن في الحافلة واجهنا قطاع الطرق، فاضطر سائق الحافلة إلى الرجوع للخلف لأخذ طريق آخر، فدخل بنا بين الجبال، وكانت مخاطرة كبيرة إذ لم يكن الطريق صالحا للسفر. لقد أنجانا الله العلي القدير من شرّ ذلك الطريق، وبقدرته تعالى استطعنا الخروج من (أمدرمان) وكنت في غاية الشعور بالاطمئنان مع وجود غصّة في قلبي؛ لأنني مضطرة لترك أهلي هناك.
في تمام الساعة التاسعة ليلا وصلنا إلى المعبر، وكانت المعاناة كبيرة؛ فمنذ تلك الساعة إلى السادسة صباحًا لم ننته من الإجراءات، وبعدها أخذت التأشيرة، وذهبت إلى مصر، وجَلست عند أختي إلى أن تدبرت أمر النقود لأذهب إلى تركيا؛ فالفيزا التي كنت أمتلكها كانت وجهتها الأساسية هي تركيا، الحمد لله، وصلتها لكني ولمدة شهرين لم أشعر بالارتياح؛ لأني كلما سمعت صوت إطلاق نار في فرح أو مناسبة ما، كنت أشعر برعبٍ شديد.
وأخيرًا...
تبدأ الحرب النفسية في الغربة. طالما حلمت أن أغادر وطني، وأستقر في الدولة التي أنا الآن فيها. كنت دائمة التضجر والجحد من حال وطني. أحيانا كنت أسيء باللفظ إلى الحياة على مستوى الوطن عموما. كنت غافلة تماما عن عظيم النعم التي حولنا، بداية بالأمان ونهاية بالصّحة. لم أدرك قيمتها أكثر إلا بَعد هذه الحرب، وخصوصا في غربتي هذه وأنا في الأمر الواقع. ماذا تعلمت؟
قالت: «تعلمتُ، فهمتُ، وأدركتُ أن وطني كان مميزا جدًا عن بقية الدّول. هأنذا أعيد اليوم ترميم وبناء ما بقي فيَّ من أملٍ على أن السودان سيعود أفضل مما كان عليه، وسأزرع روح الوطنية التي يفتقر لها غالبية الشعب السوداني تجاه وطنهم وإعطائه حقه كما ينبغي، فَحُب الوطن واجب لكل شعبه، وما عليهم فعله ليكون مثل الدول التي يودون الهجرة إليها. حفظ الله السودان، ونصر شعبه وثبت أقدامهم، ورد كيدَ من أراد به الكيد، فدوام الحال من المحال».
وأخيرا...
«بكرة يا الخرطوم تعودي
شامخة ريانة وعلية
بكرة تغشاكِ القماري
تمطر الغيمات ندية»
آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة في مجال المسرح