سواد العين والقرون الخمسة !
تمضي مأخوذا بكُلِك في حارتيّ العين والسواد في قرية إمطي، القرية التي يقترب عمرها من خمسة قرون. تسلبُ لُبّ قلبك الممراتُ التي تتوسط القرية والنوافذ والأبواب المصنوعة بدقة فنان. تأسرك الأسقف البارزة من حطب "الكندل" وجذوع النخل. مجْلِسا القرية يدُلانك على مهندسٍ معماري عُماني قديم، علّمته الطبيعة من أين يستقبل الضوء وتيارات الهواء البادرة صيفا، وكيف يُؤمَّنُ الدفء شتاء. الأقواس المُسماة بالصباحات بدتْ وكأنّها أول ما يتنزه الضوء فوقه، وكذلك "الروزنة" المُبهرة، حاملة تفاصيل الحياة الدقيقة.
البيوت جاءت على طابقين. في الطابق العلوي يقطن الناس، وفي السفلي تعيشُ الماشية والأبقار والدجاجات. المرأة العابرة قالت لنا بأنّها في الليالي البادرة تجلبُ ماشيتها إلى الأعلى لتهنأ بالدفء أيضا.
تُذهلُ من الساعة الشمسية كتوقيتٍ دقيق وعبقري لتقسيم مياه الأفلاج نهارا، وفي الليل يتبعون نجومهم كالمسرنمين. المسجد وجواره مجازات الماء المتدفقة. التنور الذي يصعد الناس الدرجات ليضعوا فيه شواء عيدهم، الإنارة الخافتة الخارجة من ثقوب الفخار والمنسجمة مع روح القرية، والأشجار المُعمرة كشاهدٍ أخيرٍ على حياة مخفية، كأشجار السوقمة والقاو.
تمضي الضفادع تابعة خرير الماء، ويمضي سرب طيور فوق رؤوسنا. صوت الماء الذي يندفع مُطرطشا فوق حواف أفلاجه، ضاجا بمضخة الطبيعة لا مضخات البشر، يملأ وجداننا بحنينٍ غامض.
لم يكن المعمار وحده اللافت، لقد عثرنا أيضا على الرحابة النادرة التي تمتع بها الناس وظننا أنّها انقرضتْ. ألقوا التحية على سجيتهم وحلفوا علينا لنشرب القهوة برفقتهم. أُعجبتُ بالنساء اللواتي تنسلُ حكاياتهن العذبة دون تحريض، مُتدفقات كفلج نشط، حتى إن إحداهن لم تتردد للحظة عن قول "تعويباتها"، والأخرى أنشدتْ "التهويدات" التي تتذكرها بصوتٍ شجي. يمضي الرجال مُبتهجين عند الأذان ليتوضؤوا، ويركض الأطفال بين السكيك لتدبّ الحياة.
عندما سألتُ فلاح بن سليّم التوبي، الأب الروحي للمشروع كما أحبّ أن أسميه، عن مصدر فكرة بعثِ القرية المنسية إلى الحياة، قال بأنّ "الفكرة كانت تراوده، وكان الحنين والشغف مُحرضه، لكن المشروع كبير وشاق، ويحتاج إلى دعم عظيم". وكما يبدو فالمستثمر العُماني نائمٌ في العسل!
أكثر ما آلمني هو ما قاله التوبي متابعا: "من حسن الحظ أنّ العمالة الوافدة لم تسكن هذا المكان، فبعض الأماكن التي سكنها الوافدون عاثوا فيها فسادا، بل نهبوا نوافذها القديمة وأبوابها وباعوها لدول مجاورة!".
بدأ المشروع عام 2019، واكتفت وزارة السياحة بدعمها اللوجستي، بينما تحمّل الأهالي كُلفة استشارة الشركة المتخصصة في التراث. وعبر مشروع "تخليد اللحظة الأثرية بالفن"، نهضتْ الأنشطة الترميمية بحارتيّ العين والسواد على يد الفنانة التشكيلية مريم الزدجالية، التي بدتْ لي كمن يُحدث مُعجزة عندما وضعت بصمة الفن الحديث فوق قرية عمرها يقارب الخمسة قرون، وهي تجربة ينبغي أن تُقدر، على أمل أن تحذو القرى الأخرى حذوها.
شعرتُ بحسرة كبيرة على قرية جدي شبه المُنهارة، حيث لم يأتِ الفنان الذي يضع بصمته عليها. شعرتُ بالحسرة على مئات القرى العُمانية القديمة التي تموتُ وتنهار دون شعور بالذنب أو تورطٍ بفجيعة!
ليس من اليسير على المُلاك التخلي عن إرثِ أجدادهم، وبالمقابل ليس من اليسير عليهم أن يُرمموها بمواصفات تحفظ بصمة المعمار القديم، ولذا بعض القرى تحتاجُ قرارا حاسما لإنقاذها حتى وإن كان ذلك بحيازة الدولة لهذه الملكيات لقاء تعويضات مُجزية.
ثمّة العديد من الأفكار المُحرضة لإنعاش السياحة ولكن المسألة تحتاج إلى تبنٍ جاد من أعلى المستويات، فإن كان لا أمان للنفط المُتذبذب، فالأمان كل الأمان لمعمارنا وقصصنا وحكاياتنا والهالة العجائبية التي تحيط بنا والتي لم تُفك شفرتها بعد ولم ينفض عنها الغبار!
لم أتمكن من إخفاء دهشتي وإعجابي بأسلافي، فماذا عساه يشعرُ السائح المتعطش؟
يمكن أن يُدعى كتاب وفنانين لقضاء خلوة الكتابة والرسم والعزف من مختلف دول العالم، بعد أن يُصبح المكان مُهيأ لخوض التجربة. أن تُفتح المقاهي والمطاعم وكل الأفكار التي تحفظ للمكان هويته وروحه.
ولا أظن أنّ ثمّة أبلغ من بيت الشاعر السمائلي حبراس السليمي أنهي به مقالي:
"بين السواد وعينِ / الحبُّ يملأ عيني".