سلطة مقيدة

31 مايو 2024
31 مايو 2024

في حسابات الربح والخسارة؛ قد يفكر أحدنا؛ أن سلطته الذاتية؛ الإباحة فيها مشرعة عبر الاتجاهات الأربعة؛ وبلا حدود، وهو ما يسمى بـ«الحرية المطلقة» ولذلك يحلو للبعض أن يسور نفسه بهذا الطوق «أنا حر» والخوف هنا؛ إن قالها بقناعة؛ لا مواراة فقط لأجل نكتة عابرة، وبالتالي فمتى تعمق هذا المعنى في نفس قائلها أودت به إلى مهالك الردى، وهي مهالك لا أول لها ولا آخر، وهذا المعنى لا يقع بين براثنه إلا إحدى الفئات: إما الجهلة من الناس، وإما اللادينيون، وإما اللاواعيون، وإما من يتلبسهم العناد، ويستحسنونه لأنه يحقق لهم شيئا من هذه الحرية الذاتية؛ وقد يستمرئون ذلك ظنا منهم أن هذا هو الطريق الصحيح لنيل ما يستصعب الحصول عليه في الحالات العادية، لكن المشكلة التي سوف تواجه هذه الفئات من أبناء المجتمع أنهم لن يجدوا الطريق معبدا أمامهم، فسوف يدخلون في قضايا لا أول لها ولا آخر، فالفهم العام لدى أبناء المجتمع - على الرغم من توقهم إلى الحرية الذاتية المطلقة - إلا أنهم لن يتحملوا انعكاساتها من الآخر، وسوف يواجهون هذا الآخر بكل الوسائل للحد من حريته الذاتية التي يزعم أنها من حقه، وأن الآخرين لا دخل لهم بها فهو «حر» في نظر نفسه.

أما الوجه الآخر لهذه الصورة؛ هي مجموعة النظم والقوانين، والتشريعات المختلفة، سواء المشرعة من لدن رب العزة والجلال، أو تلك التي أنشأنها البشر لتنظيم حياتهم اليومية، فكلا التشريعين لن يسمحا بمرور ممارسات وسلوكيات الحرية الذاتية للأفراد، وذلك كله خوفا على أمن الفرد والمجتمع على حد سواء، وبالتالي فعندما تستقوي بعض الفئات على الأخرى، فإن مرد ذلك إلى عدم قدرة الأطراف المغلوبة على أمرها من توظيف هذه التشريعات؛ في بعديها الشرعي والقانوني؛ لحماية نفسها، ويحدث ذلك إما لخذلان من حولها على مساعدتها، وإما لعدم قدرتها على مجابهة الطرف المعتدي عليها وعلى هذه التشريعات سواء بسواء.

وهنا يمكن طرح التساؤل التالي: كيف يمكن تنظيم هذه الحرية الذاتية وتحويلها إلى سلطة مقيدة، والتقييد هنا معناه التنظيم الراشد لها؛ بحيث لا تلغي المساحة الآمنة لأن يمارس الفرد حريته الذاتية، حتى لا يفقد استقلاليته مع نفسه، ليجد نفسه مكبلا حتى عن قول الحقيقة، وفي الوقت نفسه لا يتعدى على حدود الآخرين من حوله؟ والجواب على هذا التساؤل؛ تقودنا الإجابة هنا إلى العودة إلى محاضن التربية المعروفة: الأسرة، المدرسة، المسجد، والحاضنة الكبيرة «المجتمع» فكل محضن من هذه المحاضن رسالة، ويقينا؛ أن هذه الرسالة هي رسالة راشدة، وحكيمة، مخضبة بالقيم السامية، وأهمية هذه الرسالة ليس في وجودها فقط - عبر مناهج هذه المحاضن - ولكن في وضوحها لدى الناشئة، وفي متابعة تنفيذها من قبل القائمين عليها، فهذا الطفل الذي للتو تتسع رؤيته لزوايا المجتمع لن يكون قادرا على استيعاب مسائل الحقوق والواجبات التي له وعليه بين أحضان المجتمع، وأن المساحة المتاحة له لممارسة حريته الذاتية تقف عندما تبدأ حرية الآخرين من حوله، وأن حرصه على عدم التطاول على غيره، هو حماية له من عدم تطاول الآخرين عليه فـ«لكل فعل رد فعل...» حسب القاعدة الفيزيائية، وبالتالي فمتى استوعب الطفل هذه الرسالة، وفر لعموم المجتمع مساحة آمنة من الرضى والاطمئنان، إما أن تترك مسألة الممارسات السلوكية مشاعة وفق الفهم المغلوط للحرية، فهذا أمر له تداعيات خطيرة على المستويين الجمعي والفردي.