سحابة من اختناق

02 أكتوبر 2022
أنساغ
02 أكتوبر 2022

(1)

في أقطار الدنيا ("الديموقراطية"، أو "الديكتاتورية، أو "الليبراليَّة"، أو "الملكيَّة الدستوريَّة"، أو التي "بين بين"، أو تلك التي لا تبالي بالتصنيفات في ذبح الناس على الملأ، إلخ) فإنك ترى صُور، ونُصُب، وتماثيل الرموز الوطنيَّة، والنضاليَّة، والتاريخيَّة في كل مكان؛ بدءاً من الأوراق النقديَّة، ومروراً بطوابع البريد، ولا انتهاء بالجدران، والشوارع، والساحات العامة، والذاكرة الفرديَّة والجماعيَّة.

هذه بالضبط هي مهمة الدولة: إرساء نظامٍ ما -- كامل، ومتكامل، وراسخ -- تحت مُثلٍ وقيَم مستوحاة معيَّنة يصير فيها "الزمن تخييلاً" (في رؤية بورخِس)، بحيث أن "المجتمعات والقصص" إنما تبلغ آفاقها القصوى في "المخيلة" (محاججة هومي بابا المعروفة)، ثم التحكم الكامل في إرساء الاستقرار الذي تريده الدولة من حيث هي "أكثر الوحوش بروداً" كما يقول نيتشه.

بهذا (أو ضمن هذا)، مثلاً، يصير النضال من أجل الحرية، والاستقلال، والعدالة "جمهوريَّة" تحت جنازير الدبابات، وأحذية العسكر، وقباب، وقاعات، ودهاليز البرلمانات التي يديرها "أكثر أفراد القطيع شطارةً" (بمعنى cleaver”" وليس بمعنى “intelligent”) كما في سخرية نيتشه أيضاً، وذلك بالتحالف مع الوطنيين، والليبراليين، والاشتراكيين، والشيوعيين، وأولئك الذين لا علاقة لهم بأي شيء لأن ثرواتهم مؤمنة بغض النظر عن كل شيء، وأشواق الجماهير في مشروع الجبهة الوطنية الديموقراطية العريضة، أو غيرها من المسمَّيات بدواعي الضرورات التكتيكيَّة و/أو الاستراتيجيَّة.

والآن، أيضاً، أصبح الثوَّار وزراء، ومديرون، يتحكمون في اقتسام الكراسي الرئاسيَّة، والوزاريَّة، ومائدة وعِظام المؤسسة البيروقراطيَّة. لكننا سنقصيك (إن لم نصفِّيك) أيها الشيوعي لأننا استنفذنا غرض وجودك في أجندة جبهتنا، وسنضعك في منصب وجاهيٍّ أو رمزي (في أحسن الأحوال) أيها الليبرالي فقد صار وجودك مثل عدمه في خوافي مشروعنا، وسنكتفي بهتافات الفلاحين في مشاريع من قبيل الإصلاح الزراعي وكَهْرَبَة الريف.

أعلاه هو وصفة قصيرة ومقتَضَبة لما حدث في معظم "جمهوريات" العالم، والعالم الثالث على وجه الخصوص.

لكن، ضمن تلك النقاشات حول "التناسي"، و"النسيان" في سيرة الأمم والشعوب، يحيِّر المرء أيضاً أنّ في كوبا لوحات جداريَّة ضخمة، وتماثيل نصفيَّة أو كاملة لتشي غيفارا أكثر مما هناك عناوين مرئية بصورة مباشرة و"تمجيدات" و"تخليدات أرضيَّة" لفيديل كاسترو نفسه. وفي الحقيقة فإن الكوبيين أنفسهم، وحتى القبض على تشي غيفارا وإعدامه في الأحراش البوليفيَّة في 14 يونيو 1967 كانوا يتساءلون: من هو قائد الثورة حقاً؟ أهو تشي أم فيديل؟ لكن ذلك كان عصر الرفاق، وحلمهم الكبير، ووعدهم وعهدهم الوثيق في أية حال.

بيدَ إني سأزيدكم من الشِّعر بيتاً (على الطريقة العربيَّة): في الوطن العربي كلَّه لن تجد تمثالاً واحداً لشهيد الحركة الأمميَّة المهدي بن بركة، إنْ في مسقط رأسه، المغرب، أو في غيره من أقطار المشرق أو المغرب العربيين اللذين يضيفان في كل يوم دليلاً جديداً على تنكرهما لأبنائهما البررة؛ ولكنك ستجد تمثالاً نصفيَّاً، شامخاً، ومُذكِّراً بالحلم العتيد، وواثقاً، لبن بركة في العاصمة الكوبيَّة حتى اليوم.

وفي تركيا ذات التاريخ الضارب في القِدَم والعراقة تستولي التذكارات الخاصة برموز "الجمهورية" على نصيب الأسد في الساحات، والميادين، والأماكن العامة (اليساريون الأتراك لديهم، طبعاً، وجهة نظر حول ذلك في جذور تضرب إلى خذلان "الجمهورية" للاشتراكيين والشيوعيين، بل والتنكيل بهم. وفي الوطن العربي يبرز لدينا اسم مألوف على الصعيدين الشِّعري والسياسي، وهو ناظم حكمت طبعاً).

وتلك النزعة التبجيليَّة للجمهوريَّة ليست مستغربة خاصة في بلاد شعبها "وطنيٌّ" إلى أبعد الحدود التي منها ما يقع ضمن أمثلة تكاد تكون تقديسيَّة للزَّعامة والزُّعماء على شاكلة أقطار العالم الثالث (تشكِّل قيم الجمهورية ومُثلها مادة دراسيَّة إلزاميَّة في صفوف التعليم العام في تركيا).

وقد لاحظت في سياحتي هناك أن تقليد ذكر تواريخ ولادة ووفاة بعض الرموز على قواعد النُّصب أو التماثيل مُحوَّر قليلاً في تركيَّا؛ فتماثيل مصطفى كمال أتاتورك الذي كان، بالمناسبة، من قدوات أدولف هتلر وجمال عبدالناصر معاً، ولم يكن يكنُّ "احتراماً خاصاً" للثقافة العربيَّة (من الأفضل أن يقول المرء الأمر بهذه الطريقة التلطيفيَّة المهذَّبة).. الكتابة المنقوشة التي تراها في أسفل تماثيل أتاتورك، إذاً، تقول لك ما يلي: "1881--00"؛ أي أن الرجل قد ولد في 1881، لكنه لم ولن يموت (توفي أتاتورك في 10 نوفمبر 1938)، فهو خالد في ذاكرة شعبه وتاريخ بلاده. وقد فعل أتاتورك ورفاقه الكثير لاستحقاق ذلك بجدارة.

في وسع المرء أن يفهم ذلك، بل يقدِّره من ناحية، وذلك بالنظر الى الأثر العميق والتحديث الهائل الذي تركته الأتاتوركيَّة في كل شبر من الحياة التركيَّة ("أتاتورك"، في الحقيقة، هو لقب أضيف إلى اسمه، وتعني المفردة حرفيَّاً: "أبُ الأتراك"). لكن المرء، من ناحية أخرى، لا يستطيع أن يتجاهل كل ما يقوله غوستاف لوبون (الذي هو ليس من المفكرين الأثيرين لديَّ على الإطلاق): "الجماهير مجنونة [...] إنها لا تفكر عقلانياً" ("سايكولوجيَّة الجماهير").

(2)

في هذا الواقع العربي الذي أرخى علينا كل السدول بكافة أنواع الهموم والبلاء وما انجلى، لا يزال هناك نفر من النُّقاد السينمائيين العرب الذين ينحون بكل ضروب اللوم والتقريع على قليلٍ نادرٍ من الأفلام الروائيَّة العربيَّة التي صارت تظهر، في السنوات الأخيرة، هنا وهناك مثل البروق الضَّالة والأنَّات اليتيمة، قائلين -- أي أولئك النقَّاد الجهابذة -- إن تلك الأفلام التي تسير عكس التيَّار "تخلو من أية شخصيَّة إيجابيَّة"، وأنْ "ليس فيها علاقات إنسانيَّة واجتماعية نظيفة".

كلما ظهر فيلم نوعي جيد، تبرع "النقد السينمائي" بكل ما يمكن أن تكون السلطات الأمنيَّة والسياسيَّة قد سهت عنه، سهواً!

لكن لماذا يحدث ذلك؟ أظن أنه يحدث بسبب استفحال "الرداءة" (في بالي مفهوم الـ “mediocracy”) من حيث هو نظام كما في تنظير آلان دونو عن الموضوع، وقد صار كتابه متاحاً في العربيَّة بترجمة مشاعل عبدالعزيز الهاجري).

لا يستطيع ذلك النقد الكسول، والرعديد، والوَرِع أن يُفشي بصورة صريحة أكثر من ذلك أنه مصاب بعدوى أحد أوبئة النقد السينمائي الصحفي الأمريكي (تابعتُ، على سبيل المثال، بعض ما كتبه أولئك النقَّاد عن فيلم "ريش" من إخراج عمر الزهيري في فترة مشاركته في المهرجانات السينمائية العربية والدولية لدرجة أن بعض أولئك "النُّقاد السينمائيين" -- وليس المسؤولين السياسيين والأمنيين، وبقية السَّدنة -- اتهموا المخرج ضمنيَّاً بالخيانة العظمى).

لديَّ اقتراح أتمنى أن يكون وجيهاً لذلك الرهط من النقَّاد السينمائيين: لماذا لا تكتبوا لنا عن الأفلام التي ينجزها صُنَّاع الأفلام في المرِّيخ، أو عُطارد، أو المشتري، أو زُحل حيث كل شيء "إيجابي" و"نظيف" في تلك الكواكب، وذلك على النقيض من الأحوال في كوكبنا البائس الذي من الواضح جداً انكم لا تقطنون فيه؟

(3)

لعل سوزان سونتاغ التي عانت من الاكتئاب بالمعنى الإكلينكي للمفردة (وفي يومياتها الجريئة هناك تفاصيل كثيرة عن ذلك) خيرٌ من السادة سيغموند فرويد، وكارل غوستاف يونغ، وجاك لاكان، وغيرهم في تعريف ذلك الوحش البغيض: "الاكتئاب حزنٌ بدون سِحره".

لن يضيف شيئاً أن يقول المرء: الاكتئاب حزنٌ من غير شفافيَّة، غمٌّ ليس كالهمّ، أمٌّ من دون حنان، حليبٌ فاسدٌ، وسحابة من اختناق.