سؤال البدايات

16 يناير 2024
الرواية الخليجية «2»
16 يناير 2024

هنالك مشروعيّة تاريخيّة وحضاريّة وجغرافيّة تُسوِّغ لوجود ظاهرة أدبيّة هي الرواية الخليجيّة، ولا جدوى من تقليب المفاهيم وتختيلها، مثل إجراء عبارة «الرواية العربيّة في الخليج»، فلقد توفّرت شروط عرقيّة وجغرافيّة وإثنيّة تُمنطق خصوصيّة نوع أدبي في منطقةٍ من هذا العالم الوسيع، فالرواية الخليجيّة تختلف مرجعيّاتها ومعاجمها ووقائعها وملامح شخصيّاتها عن الرواية في موريتانيا، ولا شراكة تجمعهما غير شراكة إعْمال اللّغة العربيّة، وقياسا عليه، فهل الرواية الهنديّة يُمكن نَسْبها إلى الرواية الإنجليزيّة لأنّ الهندي والإنجليزي يكتبان بلغة الإنجليز!؟ خَلَلان تنظيريان قاتلان يُرافقان دراسة الرواية الخليجيّة ويؤثّران في تناولها النقدي، الخلل الأوّل ماثلٌ في مقايستها بالرواية العربية على مستوى النشأة والنمو والتدرّج، والحديث على أنّها روايةٌ حديثة المنشأ وما زالت تمرّ بالمراحل الأولى التي مرّت بها الرواية العربيّة، وهي مقايسةٌ خاطئة، أوّلا، لأنّ مراحل تاريخ الأدب لا تقتضي التدرّج والتأني، وثانيّا، وهذا الأهمّ لأنّ الرواية العربيّة ليست هي المرجعيّة الوحيدة للرواية الخليجيّة، والخلل الثاني كامن في تحديد الآخر الذي مثّل ركنا مكينا في الرواية العربيّة، وشكّل مرجعيّة في التأسيس ومرجعيّة في الإنشاء الروائي، هذا الآخر كان في نشأة الرواية العربيّة مقتصرا على الغربيّ، الأبيض، وكانت المرجعيّات الرئيسة بلزاك وفلوبير وغيرهما، في حين شكّل «الآخر» صُورا متعدّدة في المرجعيّات الخليجيّة، نظرا إلى وقائع ومقامات مختلفة، فهو الغربيّ الأوروبي، وهو أيضا الهندي والآسيوي، الذي أثّرت ثقافتهما بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل الأرضيّة المعرفيّة للكاتب الخليجي، وبالتالي فإنّ هذه الأرضيّة الشرقيّة تحمل أيضا معها مرجعيّاتها الحكائيّة المختلفة، وتؤثّر في بناء خطاب روائيّ مختلف. سؤال التأسيس في الرواية الخليجيّة سؤال مهمّ، وقد حلّ وقت الانتهاء منه بحثا، ولا ينبغي على الدارس أن يقع في الأخطاء المعرفيّة التي وقع فيه العرب في تأريخ نشأة الرواية المشرقيّة في مصر وبلاد الشام، من تنازع البحث عن اسمٍ كانت معه البدايات الأولى للرواية، فكان التنازع حول محورين أساسيين، محور التقليد ومحور مصر وبلاد الشام، أمّا محور التقليد، فقد اختصّ بدراسة هل نُسلّم فضل السبق لمن قصّ حكاية طويلة بشكل تقليدي عربي مثل المويلحي في «حديث عيسى بن هشام» أو نردّ السبق إلى من قلّد نماذج الرواية الغربيّة مثل محمد حسين هيكل في «زينب»؟.

وأمّا محور التنازع المصري الشامي حول التأسيس، فقد بدا في ردّ الفضل إلى أعمال أولى سبقت محمد حسين هيكل مثل أعمال جورجي زيدان التي لم يُعتَرَف بانتسابها إلى الرواية، أو رواية «غابة الحقّ» لفرانسيس فتح الله مراش التي يعدّها بعض النقّاد ومؤرّخي الأدب الحديث العمل الروائي العربي الأوّل، وقد صدرت في طبعتها الأولى 1865، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رواية سليم البستاني «الهيام في بلاد الشام»، التي صدرت سنة 1870. وعلى ذلك فإنّي في مقاربتي لأسس نشأة الرواية الخليجية سأتحدّث عن ظواهر شكّلت مسارا حدّد ملامح هذا الشكل الذي انتهينا إليه اليوم، هذه الظواهر قد تبدو في فُرقةٍ على مستوى التأثير، فالأصول الأولى التي مثّلت الرواية الخليجيّة لا تُشكّل أرضيّة مرجعيّة لكاتب الرواية اليوم، فإلى أيّ مدى يُمكن أن يُمثّل عبد اللّه الطائي في عُمان أو عبد القدّوس الأنصاري في السعودية أو فرحان راشد الفرحان في الكويت، مرجعيّة لكُتّاب الرواية في الخليج، كما مثّل بلزاك وفلوبير أرضيّة مرجعيّة في الأدب الروائي الأوروبي؟ أوّلا، هنالك مرحلة أولى أو ظاهرة أولى هي مرحلة «إحلال التوافق» بين القِيَم العربيّة والشكل الروائيّ الحادث، وهي مرحلة الرواية الأخلاقيّة القيميّة والوطنيّة، وصْلا للأدب بالمنفعة وابتعادا عمّا يشغل النّاس من لهْو الدنيا، فلم يكن في نيّة الأوائل كتابة رواية، ولم يكن مقصدهم استدعاء الشكل الغربي الوافد، بل كان مقصدهم استثمار نمطٍ في الأدب يُمكن فيه أن تُحكي حكايةً طويلة بغاية الإفادة والتعليم أو بغاية التوثيق والتأريخ، وتعليم الناشئة القيم والأخلاق، ولذلك كانت رواية عبد القدوس الأنصاري -التي يُمكن أن أتّخذها مثالا لهذه الظاهرة- «التوأم» خير مثال على هذه النشأة الموصولة بقديم الأدب أكثر من صلتها بالرواية في شكلها التاريخي. يُعَدُّ عبد القدّوس الأنصاري مؤسّس الحكاية الطويلة في حديث السرد الخليجي وصاحب رواية «التوأم» التي صدرت سنة 1930، ولكن حقيقةً يصعب أن يكون نصّه رواية تامّة الملامح.

لقد تقاربت أعمالُ البدايات الأولى التي كانت ضروريّة لفتح السبيل للدخول في كتابة الرواية بشكلها ومضمونها، يُمكن أن نجد هذه الظاهرة أيضا في ما كتبه عبد اللّه الطائي في روايتين عُدّتا من الروايات المؤسّسة، وهما «ملائكة الجبل الأخضر» و«الشراع الكبير»، وفي الرواية المؤسسة التي كتبها فرحان راشد الفرحان «آلام صديق» سنة 1948، يُمكن الإقرار بالتشابه بين هذه البدايات الأولى في أغلب مناطق الخليج الكُبرى التي دخلت في إنتاج الرواية طيلة خمسة عقود، في أعمالٍ، متناثرة، متفرّقة، ومن الطبيعيّ ألاّ تكون ناضجة فنيّا، وأن تضمّ محاولات بصدد التشكّل، وأن تبذر النوى الأولى للدخول في كتابة الرواية. ويُمكن أن نأخذ نموذجا عُدّ مبكّرا هو عبد القدوس الأنصاري «الموظف بديوان إمارة المدينة المنورة»، في رواية «التوأم»، وقد أرفق صفحة الغلاف بملاحظات تدلّ على نمط القارئ الذي يتخوّف منه كاتب هذا الشكل الجديد، ويعمل على بيان موقفه السلبيّ من الرواية الغربيّة، فعمل على توثيق ملاحظات في الصفحة الأولى للرواية تُبين أنّها عملٌ مزجّه للناشئة بغاية تفتيح العقول والمحافظة على التقاليد.

لقد صنع عبد القدوس الأنصاري مقدّمة لروايته أبدى فيها نكرانه للرواية على النمط الغربي، وعدّها سلاحا من أسلحة الغرب لفتح بلاد العرب، يقول في تصدير روايته: «وبعد، فغير خاف ما جلبته المدنيّة الغربيّة الحديثة على الشرق عامّة، وعلى العالم العربيّ الإسلاميّ خاصّة من آفات فتّاكة، ودواه دهياء، ممّا كاد يودي ببنياننا الاجتماعي من أسّه، ويقضي على كياننا الأخلاقيّ من رأسه. وبديهيّ أنّ هذا الفتح الأوروبيّ إنّما اعتمد على توسّعه وانتشاره على سلاحين، الدعاية القلميّة والآلات الجهنميّة. ومعلوم ما يمتاز به الأوّل من تأثير على الضمائر والشواعر. لذلك نظّم قوّاد حركة استعمار الشرق حملته تنظيما فائقا، إذ جهّزوها بما لديهم من أنفذ الوسائل وأفعل الأساليب. كان من أهمّ هذه وأمْكنها إلى قرارات النفوس تحبير تلك الروايات التي أُلبست أكسية جذّابة من الإغراء الشائن بالفظائع والانسلاخ من قويم الآداب وشريف الأخلاق»، وفعلا، فقد كانت روايته «الأدبيّة العلميّة الاجتماعيّة» حسب وصفه، مؤسّسة لهذه الأبعاد القيميّة، فهي لا تنحو منحى الرواية بقدر ما تنحو نحو الوعظ المكشوف، من خلال حكاية التوأمين الذي يتشبّث أحدهما بالتقاليد، فيفوز بحياته نعيما وراحةَ بالٍ، ويحيد الثاني عن قويم السبيل ويتّبع الأوروبي «الكافر» «الضالّ المضلّ»، فيفْقِد الخطْو وينتهي به الأمر إلى الانبتات والضياع والتسكّع.