رحيل زاهر الغافري
••«ليس الشعر سوى إقامة فـي الأرض»، هكذا قال زاهر الغافري فـي شهادته المقتضبة خلال احتفاء جامعة السلطان قابوس بتجربته الشعرية عام 2018، وكأنه يقول إن الشاعر حتى وإن مات، فهو مقيم بيننا بقوة شعره. والواقع أنه برحيل زاهر الغافري يوم السبت تكون التجربة الشعرية العُمانية الحديثة قد فقدت أحد أهم أركانها؛ الشاعر الذي كان يؤمن أن الشعر ما هو إلا تعبير عن المعرفة والحرية، وأنه «خلاصة لمفهوم الكينونة ضد القبح والرعب تجاه حياة الإنسان فـي هذه الدنيا القصيرة».
•كمعظم شعراء التجربة العُمانية الحديثة بدأ زاهر الغافري رحلته مع الشعر من القرية، من قريته سرور بولاية سمائل. تعلم فـي الكتاتيب التي شكّلت نقطة الانطلاق الأولى للتعرف على اللغة، وإمكانياتها، والانجذاب للشعر الكلاسيكي القديم، الذي يرفض زاهر تسميته «الجاهليّ» عادًّا ذلك خطأً معرفـيًّا، ويفضّل أن يسميه شعر ما قبل الإسلام. كتب شعرًا عموديًّا، ثم شيئًا من شعر التفعيلة، لكنه ما لبث أن قفز نحو الحداثة وهو لا يزال صبيًّا يافعًا، حين تعرف فـي العراق خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على تجربة الشاعرين العراقيَّيْن الكبيريَن بدر شاكر السياب ومحمود البريكان. كانت بغداد محطة مهمة فـي تطوره الأدبي، إذْ تأثر بشعر التفعيلة والقصيدة الحديثة، وانتقل بعدها إلى كتابة قصيدة النثر التي شكلت تحولًا نوعيًّا، ليس فـي تجربته فحسب، بل فـي القصيدة العُمانية الحديثة أيضا.
•فـي عام 2018 أجريتُ حوارًا إذاعيًّا مع زاهر الغافري، سألتُه فـيه عن ارتباط شعره بالغربة والاغتراب، منذ مجموعاته الشعرية الأولى، بحيث لا تكاد تخلو قصائده من ثيمات الغياب والتنقل والسفر، فأجابني أن السفر كان قدره منذ الطفولة. فقد كان يسافر منذ نعومة أظفاره مع أبيه من مكان إلى آخر، فمخر عباب البحر وهو لا يزال طفلًا إلى الهند والبصرة ودول وموانئ كثيرة، من هنا أصابته «لوثة» السفر و«جرثومة» الترحال، كما يقول، وظلت مصاحِبة له بقية حياته. وعندما نستعيد حياته اليوم نجد أنه قضى فـي بدايتها عشر سنوات فـي بغداد، وعشر سنوات أخرى فـي المغرب، وعدة سنوات فـي أمريكا، وعاش فـي باريس، والسويد، وإسبانيا. كل هذه الدول والمدن أتاحت له أن يلتقي ببشر مختلفـين، وثقافات متعددة، أسهمت فـي إثراء تجربته، وتفتيح مداركه، وتوسيع أفقه.
•ومع هذا، ورغم هذا الترحال، والتنقل ظل زاهر الغافري متعلقًا بجذوره العُمانية، وفاضت قصائده بالحنين إلى المكان الأول، والارتباط بالأرض، والشجرة، والنبع، والساقية، «شخصيًّا لا أستطيع أن أنزع جذوري والأرض التي أحبها، عُمان أقصد، من تجربتي» كما قال فـي الحوار المشار إليه، والذي سألتُه فـيه أيضًا عن التكثيف الذي يمارسه على قصائده فـي كتابتها، بحيث تبدو القصيدة لديه وكأنها قد خضعت لورشة عمل قبل أن تخرج إلى النور، فتكون خالية من الزيادات أو الشوائب اللغوية التي لا تحتاجها، فأجابني إنه يحاول قدر الإمكان أن يكون أكثر إنصافًا للمناطق التي يشتغل عليها فـي الكتابة الشعرية، كالغياب والموت والحب والصداقة، كلّ هذا معجون بتجربة الحياة، وأنه يحاول التركيز على الإتيان بأشياء مختلفة، وربما جديدة، وفق رؤيته الشخصية.
•كنتُ حريصًا فـي الحوار أن أسأله عن رأيه فـي التجربة الشعرية العُمانية الحديثة، وفـي مُجايِليه فـي هذه التجربة تحديدًا، فحدثني عن الشاعرين سماء عيسى وسيف الرحبي: «نحن الثلاثة شكلنا تجربة مبكرة، وكان لدينا نوع من الأحلام، كلٌّ حسب طريقته وفهمه، وجمعنا الاغتراب، كلّ منا ذهب إلى مكان ما، وإنْ كنتُ سبقتهما فـي الاغتراب. كانت تجارب فـيه كثير من الألق، سماء عيسى بتوجهه ذي الطابع الصوفـي، وسيف الرحبي بتجربة نظرته للعالم والإنسان، وتجربتي مختلفة إلى حدّ ما، ولكنها تجارب أساسية ومهمة، بالإضافة طبعًا إلى تجارب أخرى من غير مجايليَّ أتوا فـيما بعد ولديهم ما يقولونه»، سألتُه: «من هؤلاء الذين أتوا فـيما بعد من الذي لفتتك تجربته الشعرية؟» فذكر الشعراء صالح العامري ومحمد الحارثي وعبدالله الريامي، وخميس قلم.
•اليوم، وقاد غادرنا زاهر الغافري، سيبقى شعره شاهدًا على تجربة إنسانية فريدة، لامست الوجود والعدم، والحضور والغياب، وأكدت أن الشعر سيظل يقاوم القبح من خلال الجمال، ويعيش فـي قلوب محبيه رغم غياب الشاعر؛ الذي قال فـي واحدة من أجمل قصائده:
•لن تذهب إلى أبعد من هذا ولن ترى
•لن ترى إلى أبعد من النافذة حتى ذلك
•النبع لن ترى ذلك النبع الذي يسعى
•المرء لأن يغرق فـيه كي يولد ثانيةً
•تريدُ أن تمتحن المصير على الحافة؟
•لكنك على الأرجح رجلٌ ميتٌ يمشي
•فـي الظلام يُرددُ أغنيةً عن منفاه الطويل
•لن تذهب ولن ترى ولن يظهر لك الملاكُ
•فـي القلعة.
•إلى هنا انتهت المغامرةُ إلى الأبد
•وانكشف عُريُ الزمان.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني