رحلة في إسطنبول
امل السعيدية
في عالم مفهوم، تمثل المقاهي العابرة للحدود، مكانًا لتأمين الإنسان من الخوف.
قهوة ستاربكس بسوئها الخاص، تصبحُ في مكان جديد تسافر إليه، ملاذًا من مجهولية المكان الجديد وما يشكله من خطورة بغموضه، فلنفكر أن أي مكان ينفتح لنا ببطء شديد، خطوة ارتياد مقهى تعرفه، وشرب قهوة متوسطة الجودة، بينما تدرك المكان وتصبحُ لاعبًا مهمًا فيه، ضرورية، وحتى ذلك الحين فلتعد للمقهى مرارًا.
في إسطنبول لن تجد ذلك شاقًا عمومًا وعملية التلاحم مع هذه المدينة الكبيرة لا تأخذ وقتًا في العادة، فهي تمنح نفسها للقادمين الجدد، وفي الوقت نفسه لا تشعر فيها بأنك طارئ على المكان، وبإمكانك دومًا العودة لجذورك، ففي مكتبة الشبكة العربية وهي مكتبة عربية كبيرة في منطقة الفاتح، ستجدُ نسخة من سندريلات مسقط للكاتبة العمانية هدى حمد، فتحسُ فورًا أنك لم تبتعد كثيرًا.
والفاتح مثل «يوسف باشا» و«شيرين أفلار» وغيرها تتوهج بإعلانات المحلات بالعربية، وبينما تتجول فيها تسمعُ لهجات عربية متنوعة وتبتسم مع أن في ذلك غصة كبيرة، فكثير من هؤلاء خسروا بيوتهم وكثيرًا من عائلاتهم ولجأوا لهذا المكان هروبًا من واقع عسير.
يقول سكان إسطنبول العرب، وقد تقاطعت مع بعضهم فترة مكوثي هناك لقضاء إجازة قصيرة أن إسطنبول مدينة رائعة ويحبونها كثيرًا مع أن العيش فيها صعب للغاية، سمعتُ ذلك في «بودكاست» للاجئ كردي سوري يعيش فيها أيضًا، وفي استغراقي المنبهر بها، لم أترك لذلك أن يلغي رغبتي في معرفة حقيقة صعوبتها، أظنُ بأن الدهشة شعورٌ معلَق، يتطلب بالضرورة مسافة من الموضوع الذي أثار الدهشة، وأنا أريد أن ألغي أي مسافة بيني وبين إسطنبول.
تتوفر محطات المواصلات في كل مكان، حتى أنني دققتُ في الوقت بين محطة توقف وأخرى عبر المترو ولم تكن تتجاوز الدقيقتين، وكذلك بالنسبة للحافلات الكبيرة، يجب أن تحصل على بطاقة مواصلات إسطنبول، التي وبنسختها الحديثة، مكتوب عليها «أنا أحب إسطنبول» للتدقيق تم استبدال كلمة «أحب» برسم لقلب أحمر يخفق.
ورغم توفر المواصلات إلا أنها كثيرًا ما تكون مزدحمة مما يضطرك لانتظار الرحلة اللاحقة، التي قد لا تأتي قريبا.
إن أولى العلامات التي تحدد فهمك لإسطنبول هي وسيلة تنقلك، فسيارات الأجرة مرتفعة الكلفة، ويصعب الحصول عليها، عدا أن تعقيد المدينة وأزقتها يجعل مرور السيارات صعبًا للغاية، والازدحام في الشوارع العامة عائق آخر، غالبًا لا يستقل السيارة إلا السائح الخليجي الثري كما يفكر سائقو سيارات الأجرة، أو مستجد على إسطنبول.
لا يتحدث الأتراك بغير لغتهم، ولديهم اعتزاز كبير بثقافتهم لأسباب لا تخفى علينا، حتى في أهم الأماكن لن تجد من يجيد الإنجليزية مثلًا، لذلك فالتواصل صعب للغاية معهم وغالبًا ما يسبب سوء فهم يثير غضب الطرفان، يقول لي صديقي: إن الأتراك تأخروا في كتابة الأبجدية ولغتهم، ومع ذلك يذهلني كثيرًا ما يفعلونه اليوم فيما يتعلق بالترجمة، فعندما تدخل لأي مكتبة، وتحاول قراءة أسماء الكتب، بما أن التركية تستخدم الحروف اللاتينية، وكثير من كلماتها عربية، وبعضها فرنسي، وإنجليزي، أميز أسماء كثير من الكتاب، وأفاجأ بكم الأعمال المترجمة لهم، هنالك أسطورة تبَين لي حقيقتها عندما جئت لإسطنبول وهي أن كتابًا يصدر خلال أسبوعين ستتوفر له ترجمة تركية، مع بعض المبالغة طبعًا، قضيتُ وقتًا طويلًا في تأمل عناوين مكتبة تركية كبيرة في شارع استقلال الشهير، حتى أنني كنت سأبتاع عملًا مترجمًا لفروغ فرخزاد لم أكن أمتلك نسخة عربية منه، عله يشجعني على تعلم اللغة لولا أنني ردعتُ نفسي آخر لحظة لأنني أعرف نفسي جيدًا.
على ذكر أن في اللغة التركية مزيج من لغات عديدة، حتى هذه اللحظة وبعد سنة كاملة من قراءة كتاب «أسطنبول المدينة والذكريات» للكاتب التركي النوبلي أورهان باموق، ما زال فصل «حزن» في الكتاب، وبدايته التي تشرح بقاء كلمة حزن العربية في المعجم التركي، يُثير فيّ مشاعر حب لهذه الثقافة، قرأت هذا الفصل في الكتاب الذي لم تعد ترجمته متوفرة في السوق العربي لعبدالكريم عبدالمقصود وأماني توما وكانت قد صدرت مع دار الانتشار العربي.
تجدُ كتب باموق حتى في أصغر البقالات، وفور أن ذكرت اسمه للشاعر والمسرحي ماتين بوران مؤجر شقتي في إسطنبول حتى امتعض منه على الفور، ولم تكن هذه سابقة، لقد عرفت بتقليص المسافة بيني وبين إسطنبول أن كاتب «ثلج» و«اسمي أحمر» غير محبوب هنا، ولا شعبية له، لأنه على حد تعبير بوران يكتب ما يريد الأجنبي أن يقرأه عن تركيا، لا عنها كما هي عليه بالفعل، سرعان ما أصحح خطئي بذكر أورهان ولي الشاعر الذي تبين أنهم يحبونه كثيرا، لكن ذكري لكل من نوري جيلان وسميح أوغلو جعلاني استحوذ على اهتمام صاحب الشقة، كان سعيدًا للغاية أنني أعرف المخرجين، يقول: إن اندهاشه بخصوص جيلان أقل بسبب شهرته، أما سميح أوغلو فماذا أكون قد شاهدتُ له لكي أعرفه، قلت له إنني شاهدت ثلاثيته الشهيرة: حليب، عسل، بيض، قلت أسمائها بتركية ضعيفة ومترددة، وبدون مبالغة كاد يبكي من الفرح.
في «ثمار شجرة الكمثرى» آخر أعمال نوري جيلان، شاعر شاب، يحاول نشر قصائده وديوان له، في قرية ريفية في تركيا، يرى أهله وسكان هذه القرية في اهتمامه هذا رغبة صبيانية، ويقول أحد المسؤولين فيها ما رأيك أن تكتب دليلًا سياحيًا عن المكان على طريقة الشعر، يذُهل الشاب من تحطيم أحلامه وفكرة الشعر لدى هذا المسؤول، ويلتقي بشاعر مخضرم يخذله ويحاضره حول الحياة المليئة بالصعاب والتحديات التي لا ندركها نحن كجيل جديد لديه هذه الأحلام الطفولية عن الشعر والحياة.
أبحث في تجوالي عن هذا الشاب، أتأمل القراء والقارئات في مقاعد المترو علني أجد فيهم ضالتي، وأفترض أن كثيرًا منهم امتداد لذلك الشاب.
قضيتُ ثلاثة أيام في قرية تونيا بشمال تركيا، في فندق يقع في أعلى تلال تلك المنطقة، كان الضباب يلفها في يوم وصولي، لكن الشمس طبعت أشعتها على خضرةٍ حقيقية ناصعة لم أتخيل وجودها قط، في اليوم التالي، كنتُ أجلس في المقاعد الخارجية لمقهى من على سفح جبل مرتفع للغاية، أكمل قراءة «التآمر على أمريكا» لفيليب روث، وعلى غلاف الكتاب، النجمة المعقوفة أو الصليب المعقوف، -شعار النازية- عندما تجرأ موظف في الفندق على سؤالي عما أقرأ، وقد بدا ذلك حسبما ظننت محاولة لفتح حديث بين الضيفة الجديدة وأصحاب المكان، سرعان ما اكتشفت أن خوفًا يختبئ وراء هذا السؤال، قلت له أنني أقرأ لفيليب روث، قال لي ولكن هذه علامة النازية وأنا أكرهها، بدأتُ بحماسة بتبرير الأمر بأن روث كاتب يهودي وهو في هذا العمل يتحدث عن ردة فعل اليهود الأمريكان من النازية وخوفهم الشديد منها في الأربعينيات، ردد اسمه ثم قال: روث اسم يهودي فعلًا. ثم قال لي: إن جدته لأمه عانت في معسكرات النازية، كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة، أخبرته بهذا، وقال لي: إنه عاد إلى تركيا قبل وقت قصير فقط، وأنه سيبحث عن الرواية ليقرأها، كنتُ سعيدة على غير عادتي بانتهاك عزلتي والهالة التي تطوقني، والتي أعرف أنها طاردة، مرة أخرى يفتح لي الأدب طرقًا لمعرفة الآخر، وفي قرية بعيدة كل البعد، ألتقي بحفيد امرأة عانت في معسكرات هتلر النازية، أليس هذا عظيماً؟