راسل إدسن: «يوشك الشعر أن يكون فنا لا لغويا»

27 يوليو 2024
27 يوليو 2024

قبل عدة سنوات قرأتُ في مجلة نزوى ترجمة لحوار مع الشاعر الأمريكي راسل إدسن، شاعر «قصيدة النثر» الأمريكية كما يعرفه النقاد من خلال تعريفه لنفسه. لم يكن هذا الشاعر معروفا حينها بما يكفي لدى القارئ العربي، لكن اهتمام الشاعر والمترجم المصري أحمد شافعي به ساعدنا على التعرف عليه أكثر، إذ قدَّم لنا نماذج من شعره وحوارات معه، من بينها هذا الحوار، في كتابٍ صدر بعنوان «كلنا نولد مصابين بالغثيان». في حواره «المثير» هذا مع بيتر جونسن: «راسل إدسن» عاريا إلا من خياله» يتحدث إدسن عن السجال المستمر حتى مطلع القرن الحالي حول شرعية قصيدة النثر في الولايات المتحدة؛ وهو ما يجعلنا نفهم أن هذا السجال حول هذا النوع الجديد لم يشغل الثقافة العربية وحدها طيلة العقود الماضية؛ ففي الوقت الذي ظل فيه بعض منتسبي الحداثة العربية يمعن في توبيخنا، مجتمعا وثقافةً، في سبيل إثبات هذه الشرعية (وكأن شيئا ما جينيا فينا دون سوانا مجبول على الارتهان لمرجعية الثابت والقديم ضد التجديد) كان هذا السجال لا يقل احتداما في أمريكا بين أوساط الشعراء والأكاديميين وفي المجلات الأدبية ودور النشر، دون أن يتهم أحدٌ الثقافة أو المجتمع الأمريكيين بالرجعية والجمود!

عربيا، وبعد عقود من الإغلاق «شبه الرسمي» لهذا السجال، نجح هذا التطرف المضاد في بسط نفوذه إلى درجة لا تسمح بفتح نقاش جديد يسائل هذه الفوضى السائلة في الكتابة الشعرية باسم قصيدة النثر وتحت لوائها؛ إذ سرعان ما يُكَمَّمُ نقاش من هذا النوع بتهمة إثارة «النعرات الطائفية» بين الشعراء والدعوة الجاهلية للعودة بزمن الكتابة الجديد إلى حقبة «القبَلية الشعرية» الآفلة، حتى وإن كان السؤال المبثوث سؤالا عن الشعرية في تضاعيف النص أيا ما كان شكلُه ولا علاقة له بسؤال الشرعية الاحتكاري، وكأنما أسئلة النقد الأدبي لا تعدو كونها خلافات أيديولوجية يتم تجاوزها بالمصالحات السياسية بين أطرافها المتنازعين.

بعيدا عن هذا الاشتباك الضروري الممل، ثمةَ عبارةٌ بين فاصلتين في كلام راسل إدسن هي بعينها ما بقي ساطعا على مدى السنوات الماضية في ذهني: «يوشك الشعر أن يكون فنا لا لغويا». في هذا القول البسيط الفاتن تُرى نبوءةٌ غامضة تستحق الإعجاب؛ على ضوئها يمكن للقارئ أن يتصور بسذاجة مفرطة في البراءة بأن في وسع الشعر، الشعر العظيم، أن يكون باللغة ومن خلالها قادرا على تجاوز حدود اللغة نفسها، أي قادرا على تجاوز حدود نفسه كنوع، مستفيدا من فنون أخرى ومتماهيا فيها. غير أني أعود اليوم لتقليب عبارة إدسن بشيء من الذُّعر، ولا أدري إن كنت سأندم بعد حين لو قلت: إنها نبوءة ذات ملامح «شيطانية» في أكثر وجوهها براءةً.

نتيجةً للعولمة، وخلال عقود من ارتطام العوالم المفزع في هذا الخلّاط الكوني، وجد بعض الشعراء، المولعين بالتجريب داخل التجريب، أن الوقت قد حان لكتابة القصيدة المعولمة التي لا ترتكز قيمتها الإبداعية على ممكنات وكوامن اللغة التي تتخَّلق منها وفيها بحمولتها الثقافية الخاصة، وإنما على مشتركات ثقافية عابرة للقارات تسهِّل حركة الترجمة دون القلق من أن تصاب القصيدة بجفاف عاطفي نتيجةً لشحوب الخصائص الجمالية للغة الأصل؛ وذلك باختصار لأنها انسحبت من الرهان على اللغة أو على هويتها اللغوية ككائن يدخل إلى حيز الوجود لغةً.

سنجد أننا نقترب أكثر من حرفية نبوءة إدسن حين نرى بعض النماذج الشعرية التي تعمد إلى التلاعب بتوزيع الأسطر وتوظيف المساحات البيضاء وإعادة هندسة الشكل البصري للنص على البياض، أي تحويل القصيدة إلى ساحة بيضاء للرسم الحرفي بالكلمات.

سركون بولص، القريب من مناخات التجريب العالمية ومن الشعر الأمريكي بصفة خاصة، كان من أوائل الشعراء العرب المعاصرين الذين بادروا لمغامرة «القصيدة البصرية» أو «التجسيمية» أو «الكونكريتية» وهو ما نراه، لا ما نقرأه، في مجموعته الشعرية «الوصول إلى مدينة أين» عام 1985، حيث لا يمكنني أن أشير لما أعنيه باقتباسٍ كما تجري العادة؛ لأن «القصيدة» مؤلفة من أرقام وأشكال هندسية فيما يشبه الطلاسم. يكتب الناقد السوري صبحي حديدي عن مغامرة الشاعر العراقي هذه قائلا: «تعكس تلك القصائد بعض طرائق استقبال العولمة الزاحفة، بل لعلها تماهت بهذه الدرجة أو تلك مع واحدٍ من أدق تعريفات العولمة، ذاك الذي اقترحه أنتوني جيدنز في كتابه «عواقب الحداثة»، حول انضغاط العالم وانكسار النرجسيات، في آن معا، من جهة أولى؛ كما أنها، من جهة ثانية، استبصرت صيغة القصيدة الإلكترونية، التي سوف تنتشر على نطاق واسع، بوصفها وليدةَ الأيقونة الكبرى لعصور الحديث والتحديث والحداثة والعولمة، أي الشاشة الرقمية». ولعل ملامح هذا التحول كانت قد بدأت بالتسلل للثقافة العربية منذ أن دخل الشعر إلى حيز التدوين، فأصبح مقروءا أكثر منه مسموعا، وحلت محل القصيدة الجهورية قصيدةٌ مكتومة الصوت، خاصة بعد أن طرحت إيقاعها الخارجي جانبا.

وبقدر ما تشي هذه المحاولات الضَّجرة المُضجرة بتحول العبثية إلى موجة عنف عالمية تستهدف في طريقها أي نظام أو مؤسسة أو نوع، تعكس لنا في الآن ذاته مدى أصالة اللغة كأقوى نظام إنساني عصي على التهجين العولمي؛ فاللغة إما أن تحاور اللغات الأخرى فتؤثر وتتأثر، كما هي طبيعتها المتحضرة، وإما أن تموت انتحارا في زمن تفوقت تقنياته الصناعية على براءتها، فلم تعد قادرةً على استيعاب ما يحدث. غير أن موت اللغة هو إيذانٌ ببداية العنف وإنذارٌ بالحرب. فحين يتعطل اللسان تحل اليد أداةً للتعبير. باللغة يستطيع الإنسان الغاضب أن يبرر، أن يشرح ويحتج، ولكنه حين تصادر لغته أو تعتقل أو تُدمَّر فلن يجد مناصا من المبادرة إلى العنف كلغة بديلة.

يمكن لهذه المحاولات (البصرية) أن تبحث عن هوية فنية أخرى غير الشعر لتحظى باستقلالها التام دون أن تورط الشعر في ما ليس منه، وبدلا من أن تؤسس فيه وباسمه لانشقاق داخلي جديد. إن الخلط الشائع المائع بين الشعر والشعرية هو خلط بين الفن وصفته. وهو أحد الذرائع الشائعة بين من يجربون الشعر خارج اللغة وبلا موهبة في معظم الأحيان سوى التشدُّق بحرية الكتابة.

كل تجربة شعرية هي بالضرورة تجريب متواصل، ولكن بأدوات الشعر وداخل نظامه الذي يطوره الشاعر. فالتجريب الواعي بمهمة الشعر هو ما يفضي إلى الاستقرار في نهاية المطاف مُكتشفا نظامه خاص، سواءً كان جديدا أو كلاسيكيا مُحدَّثا: «لا بيت للشعر خارج النظام» كما قال محمود درويش. كما لا يمكن للتجريب أن يبقى تجريبا للأبد، وإلا لفقد شكله وسفح مضمونه في الفوضى، إذ لا شكل بلا مضمون، كما لا مضمون بلا شكل، العلاقة هنا أشبه بعلاقة الجسد والروح، حيث لا يمكن للروح أن تبقى هائمةً بلا طين يجسِّدها: «الجسدُ هو مشهد جميع ما أمثّله» على حد تعبير برنار نويل.